نـــــــــــــجـــــــــر ان
كانت (نجران) منذ القدم من أهم وأشهر بقاع الجزيرة العربية، ومن أكثرها ذكراً في سجلات التاريخ التي سطرت عن بلاد العرب القديمة. فقد ورد اسم نجران في العديد من المصادر التاريخية، حيث أطلق بطليموس على نجران اسم (نجراميتروبوليس Nagrametropolis)، أي (مدينة نجران). كما ورد ذكرها في النقوش اليمنية القديمة؛ وأقدم ذكر لها في نقوش المسند يعود إلى عصر المكارب السبئيين؛ مما يدل على أنها من البلاد العامرة منذ عصور قبل الميلاد؛ وأنها كانت من المواضع النابهة في أول أيام دولة سبأ [5] .
وذكرت نجران في (نقش النمارة) الذي يعود زمنه إلى سنة(328م)؛ وقد نعتها بـ (نجران مدينة شمر) نسبة إلى أحد ملوك اليمن[6] ؛ كما ورد ذكرها في نص أشار إلى حملة خرجت من نجران إلى نباطور (مدينة النبط) فدمّرتها.[7]
وتؤكد الدراسات التي أعدّها الرحالة الأوروبيون الذين توافدوا على الجزيرة العربية منذ نهايات القرن الثامن عشر[8] ، وكذلك المسوحات التي أجرتها (وكالة الآثار والمتاحف السعودية) في منطقة (نجران)[9] أن تاريخ (نجران) يمتد إلى ما قبل الميلاد بمئات السنين. وتقف النقوش المسجلة على صخور الجبال والكهوف شاهد صدق على الحضارة التي عرفتها (نجران) منذ زمن بعيد.
وقد اكتسبت (نجران) أهميتها وشهرتها التاريخية من عدة عوامل، منها ما هو جغرافي، ومنها ما هو اقتصادي، ومنها ما هو ديني وحضاري. وسوف نعرض فيما يلي إلى بعض هذه العناصر مبتدئين بإستراتيجية الموقع.
تشير المصادر التاريخية إلى أن نجران شغلت موقعاً استراتيجياً متميزاً على خريطة العالم القديم، حيث إنها كانت واحدة من أهم (مدن القوافل)[10] التي تقع على طريق التجارة البرية القديمة بين الشام واليمن، والذي يعرف بـ (طريق البخور)[11] . وكانت نجران بحكم موقعها, بمثابة بوابة عبور القوافل التجارية إلى المواقع الداخلية في شبه الجزيرة العربية. فقد "كانت تصلها الطريق الوحيدة من عدن، وتتفرع منها طريقان رئيسان تسلك إحداهما أطراف الهضاب وأقدام الجبال من جهة الربع الخالي إلى اليمامة فساحل الخليج العربي، أو اليمامة فبلاد ما بين النهرين، أي باتجاه الشمال الشرقي"[12] . وذلك يعني أنه ما من قافلة تجارية تنطلق من جنوب الجزيرة صوب شمالها أو العكس إلا وتمر بنجران.
وقد حافظت نجران على مكانتها التجارية – باعتبارها واحدة من أبرز مدن التجارة العربية – طيلة عصر ازدهار التجارة البرية الذي امتد في الفترة من (500ق.م.) إلى (600م).[13] ويذكر بعض الباحثين أن شهرة نجران وأهميتها التاريخية تعود إلى أنها كانت سوقاً تجارية رائجة، وذلك بحكم موقعها الاستراتيجي المتميز على طريق القوافل، وبحكم مناخها المعتدل وتربتها الخصبة ومياهها الوفيرة، حيث جعلتها هذه المميزات "محطة تتجمع فيها القوافل التجارية القادمة من الممالك اليمانية لغرض البيع والشراء، لا سيما أن فيها سوقاً يعد من أهم وأكبر أسواق العرب، وكان يسمى (سوق العمدين)"[14] .
وتذكر بعض المصادر التاريخية أن اليونانيين ومن بعدهم الرومان، قد عرفوا (نجران) "كسوق تجاري على طريق القوافل التي تحمل عروض تجارة البخور والصمغ والتوابل والعقيق والأصباغ، من العربية السعيدة وسائر مناطق الجزيرة، وتعود بها محملة بعروض فارس ومنسوجات وسيوف الشام، ومنتوجات اليونان، مارة بالحيرة، ومنها عبر نجد، ثم نجران؛ ومن نجران تسلك طرقاً شتى" [15] .
وقد تعرضت نجران عبر تاريخها القديم الى حملات حربية وغزوات كثيرة. وكانت أكثر الحملات إبادة لنجران تلك التي قام بها الرومان في عهد (أغسطس) بعد احتلالهم لمصر. وخطط الرومان للسيطرة على طرق التجارة التي كانت تمتد عبر جبال الحجاز وثغور البحر الأحمر لانتزاعها من أيدي العرب المتحكمين فيها. ولذلك, أمر (أغسطس) قائده العام في مصر، ويدعى (غالوس)، بأن يزحف بجيش كبير إلى اليمن ليحتلها. وقد واجه ذلك الجيش خلال سفره الطويل – (2500) كم تقريبًا – العديد من الصعوبات التي أدت إلى إنهاكه. ونتيجة لحالة الجيش وطول خطوط تحركاته, فإنه عندما وصل جنود تلك الحملة إلى نجران، حاصروها حصاراً عنيداً حتى تمكنوا من إسقاطها، ثم شرعوا في نهبها وتدميرها تدميرًا كاملاً، وأفلوا عائدين من حيث أتوا، لأنهم عجزوا عن مواجهة صفوف الجيوش المتشابكة عبر الطريق المؤدية إلى مأرب. وقد صادفت هذه الحملة الشرسة الدور الأول لدولة حمير التي امتدت من سنة (115 ق.م) حتى (275م)[16] .
تهميش
في المختارات القادمة سوف نكمل ما بدأناه, ونحاول تسليط الضوء على بعض العناصر العامة عن نجران, مثل: جغرافية الأرض وخصوبتها ومناخها, خصائص موقع نجران, التاريخ الديني القديم لنجران, حادثة الأخدود, دخول نجران في الإسلام, الأعراف والعادات والتقاليد الاجتماعية, الاهتمام بالتنشئة الاجتماعية للأبناء, والتعليم والهوية الثقافية في نجران القديمة؛ وغيرها. ونتمنى أن تسهم مشاركتنا المتواضعة عبر «صوت الأخدود» في مزيد من الحوار الثقافي لإثراء المكتبة النجرانية في شئون نجران الأرض والموروث.
ونرجو أن يتفضل المهتمين بالتصويب والإضافة ما أمكن حول هذه المشاركة, وما يتبعها, تحقيقا للغاية من تحريرها ونشرها. وهذه العجالة عن نجران القديمة, ليست كل الحقائق عن نجران, وهي قاصرة جدا عن الإلمام بمضامين مصادر المعرفة المتوفرة عن نجران. وهذه المساهمة هنا لا تعدو كونها مجرد اجتهاد نحو فتح صفحة من كتاب يحرره الجميع.
وإنني على ثقة بأنها يمكن أن تثير اهتمام أولئك الذين لهم باع طويل ومقدرة تفوق ما سنقدمه هنا؛ ولديهم من مصادر المعرفة ما هو أثمن واشمل. وبالتالي, فهم مطالبون أكثر من غيرهم ليسهموا في تشكيل مستقبل ثقافي أفضل خدمة لأولئك الذين تتطلب بحوثهم ودراساتهم المزيد من المعارف النجرانية.
منقول