[ 81 ]
فقال: لنحن أولى بهذا منكم، فقاتلوه، فاقتتل الناس قتالا شديدا، ثم انهزمت صوفة، وغلبهم قصى على ما كان بأيديهم من ذلك. وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصى، وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع صوفة، وأنه سيحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة. فلما انحازوا عنه باداهم وأجمع لحربهم [ وثبت معه أخوه رزاح بن ربيعة بمن معه من قومه من قضاعة ]. وخرجت له خزاعة وبنو بكر فالتقوا، فاقتتلوا قتالا شديدا [ بالابطح ]، حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعا، ثم إنهم تداعوا إلى الصلح وإلى أن يحكموا بينهم رجلا من العرب، فحكموا يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فقضى بينهم بأن قصيا أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة، وأن كل دم أصابه قصى من خزاعة وبنى بكر موضوع، يشدخه تحت قدميه، وأن ما أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش وكنانة وقضاعة ففيه الدية مؤداة، وأن يخلى بين قصى وبين الكعبة ومكة، فسمى يعمر بن عوف يومئذ: الشداخ، لما سدخ من الدماء ووضع منها. قال ابن هشام: ويقال الشداخ. قال ابن إسحاق: فولى قصى البيت وأمر مكة، وجمع قومه من منازلهم إلى مكة، وتملك على قومه وأهل مكة فملكوه، إلا أنه قد أقر للعرب ما كانوا عليه وذلك أنه كان يراه دينا في نفسه لا ينبغى تغييره، فأقر آل صفوان وعدوان والنسأة ومرة بن عوف على ما كانوا عليه، حتى جاء الاسلام فهدم الله به ذلك كله. فكان قصى أول بنى كعب بن لؤى أصاب ملكا أطاع له به قومه، فكانت إليه الحجابة، والسقاية، والرفادة، والندوة، واللواء، فحاز شرف مكة كله. وقطع مكة رباعا بين قومه، فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة التى أصبحوا عليها، ويزعم الناس أن قريشا هابوا قطع شجر [ من ] الحرم في منازلهم،
[ 82 ]
فقطعها قصى بيده وأعوانه، فسمته قريش مجمعا لما جمع من أمرها، وتيمنت بأمره، فما تنكح امرأة، ولا يتزوج رجل من قريش، وما يتشاورون في أمر نزل بهم، ولا يعقدون لواء الحرب قوم من غيرهم إلا في داره، يعقده لهم بعض ولده، وما تدرع جارية إذا بلغت أن تدرع من قريش إلا في داره، يشق عليها فيها درعها ثم تدرعه، ثم ينطلق بها إلى أهلها. فكان أمره في قومه من قريش في حياته، ومن بعد موته، كالدين المتبع لا يعمل بغيره. واتخذ لنفسه دار الندوة وجعل بابها إلى مسجد الكعبة، ففيها كانت قريش تقضى أمورها. قال ابن هشام: وقال الشاعر: قصى لعمري كان يدعى مجمعا * به جمع الله القبائل من فهر قال ابن إسحاق: حدثنى عبد الملك بن راشد عن أبيه قال: سمعت السائب ابن خباب صاحب المقصورة يحدث أنه سمع رجلا يحدث عمر بن الخطاب، وهو خليفة، حديث قصى بن كلاب، وما جمع من أمر قومه، وإخراجه خزاعة وبنى بكر من مكة، وولايته البيت وأمر مكة، فلم يرد ذلك عليه ولم ينكره. قال ابن إسحاق: فلما فرغ قصى من حربه انصرف أخوه رزاخ بن ربيعة إلى بلاده بمن معه من قومه، وقال رزاخ في إجابته قصيا: لما أتى من قصى رسول * فقال الرسول: أجيبوا الخليلا نهضنا إليه نقود الجياد * ونطرح عنا الملول الثقيلا نسير بها الليل حتى الصباح * ونكمى النهار لئلا نزولا فهن سراع كورد القطا * يجبن بنا من قصى رسولا جمعنا من السر من أشمذين * ومن كل حى جمعنا قبيلا فيالك حلبة ماليلة * تزيد على الالف سيبا رسيلا فلما مررن على عسجر * وأسهلن من مستناخ سبيلا وجاوزن بالركن من ورقان * وجاوزن بالعرج حيا حلولا
[ 83 ]
مررن على الحلى ما ذقنه * وعالجن من مر ليلا طويلا ندنى من العوذ أفلاءها * إرادة أن يسترقن الصهيلا فلما انتهينا إلى مكة * أبحنا الرجال قبيلا قبيلا نغاورهم ثم حد السيوف * وفى كل أوب خلسنا العقولا تخبرهم بصلاب النسو * ر خبز القوى العزيز الذليلا قتلنا خزاعة في دارها * وبكرا قتلنا وجيلا فجيلا نفيناهم من بلاد المليك * كما لا يحلون أرضا سهولا فأصبح سبيهم في الحديد * ومن كل حى شفينا الغليلا وقال ثعلبة بن عبد الله بن ذبيان بن الحارث بن سعد هذيم القضاعى في ذلك من أمر قصى حين دعاهم فأجابوه: جلبنا الخيل مضمرة تغالى * من الاعراف أعراف الجناب إلى غورى تهامة فالتقينا * من الفيفاء في قاع يباب فأما صوفة الخنثى فخلوا * منازلهم محاذرة الضراب وقام بنو على إذ رأونا * إلى الاسياف كالابل الطراب وقال قصى بن كلاب: أنا ابن العاصمين بنى لؤى * بمكة منزلي وبها ربيت إلى البطحاء قد علمت معد * ومروتها رضيت بها رضيت فلست لغالب إن لم تأثل * بها أولاد قيذر والنبيت رزاح ناصرى وبه أسامي * فلست أخاف ضيما ما حييت فلما استقر رزاخ بن ربيعة في بلاده، نشره الله ونشر حنا، فهما قبيلا عذرة اليوم. وقد كان بين رزاخ بن ربيعة، حين قدم بلاده، وبين نهد بن زيد وحوتكة بن أسلم، وهما بطنان من قضاعة، شئ، فأخافهم حتى لحقوا باليمن وأجلوا من بلاد قضاعة، فهم اليوم باليمن. فقال قصى بن كلاب، وكان يحب
[ 84 ]
قضاعة ونماءها واجتماعها ببلادها، لما بينه وبين رزاخ من الرحم، ولبلائهم عنده إذا أجابوه إذ دعاهم إلى نصرته، وكره ما صنع بهم رزاخ: ألا من مبلغ عنى رزاحا * فإنى قد لحيتك في اثنتين لحيتك في بنى نهد بن زيد * كما فرقت بينهم وبيني وحوتكة بن أسلم، إن قوما * عنوهم بالمساءة قد عنوني قال ابن هشام: وتروى هذه الابيات لزهير بن جناب الكلبى. قال ابن إسحاق: فلما كبر قصى ورق عظمه، وكان عبدالدار بكره، - وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه وذهب كل مذهب، وعبد العزى وعبد - قال قصى لعبد الدار: [ أما والله يا بنى ] لالحقنك بالقوم وإن كانوا قد شرفوا عليك: لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفنحها له، ولا يعقد لقريش لواء لحربها إلا أنت بيدك، ولا يشرب أحد بمكة إلامن سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاما إلا من طعامك، ولا تقطع قريش أمرا من أمورها إلا في دارك، فأعطاه داره دار الندوة، التى لا تقضى قريش أمرا من أمورها إلا فيها، وأعطاه الحجابة واللواء والسقاية والرفادة. وكانت الرفادة خرجا تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قصى ابن كلاب، فيصنع به طعاما للحاج، فيأكله من لم يكن له سعة ولا زاد. وذلك أن قصيا عرضه على قريش، فقال لهم حين أمرهم به: " يا معشر قريش، إنكم جيران الله وأهل بيته وأهل الحرم، وإن الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج، حتى يصدروا عنكم " ففعلوا، فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم خرجا فيدفعونه إليه، فيصنعه طعاما للناس أيام منى. فجرى ذلك من أمره في الجاهلية على قومه حتى قام الاسلام، ثم جرى في الاسلام إلى يومك هذا، فهو الطعام الذى يصنعه السلطان كل عام بمنى للناس حتى ينقضى الحج.
[ 85 ]
قال ابن إسحاق: حدثنى بهذا من أمر قصى بن كلاب، وما قال لعبد الدار فيما دفع إليه مما كان بيده، أبى إسحاق بن بسار عن الحسن بن محمد بن على ابن أبى طالب رضى الله عنهم قال: سمعته يقول ذلك لرجل من بنى عبدالدار، يقال له: نبيه بن وهب بن عامر بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبدالدار بن قصى. قال الحسن: فجعل إليه قصى كل ما كان بيده من أمر قومه، وكان قصى لا يخالف، ولا يرد عليه شئ صنعه. ذكر ما جرى من اختلاف قريش بعد قصى وحلف المطيبين قال ابن إسحاق: ثم إن قصى بن كلاب هلك، فأقام أمره في قومه [ وفى غيرهم ] بنوه من بعده، فاختطوا مكة رباعا - بعد الذى كان قطع لقومه بها - فكانوا يقطعونها في قومهم وفى غيرهم من حلفائهم ويبيعونها، فأقامت على ذلك قريش معهم ليس بينهم اختلاف ولا تنازع، ثم إن بنى عبد مناف بن قصى: عبد شمس وهاشما والمطلب ونوفلا أجمعوا على أن يأخذوا ما بأيدى بنى عبدالدار بن قصى مما كان قصى جعل إلى عبدالدار، من الحجابة واللواء والسقاية والرفادة، ورأوا أنهم أولى بذلك منهم لشرفهم عليهم وفضلهم في قومهم، فتفرقت عند ذلك قريش، فكانت طائفة مع بنى عبد مناف على رأيهم يرون أنهم أحق به من بنى عبدالدار لمكانهم في قومهم، وكانت طائفة مع بنى عبدالدار، يرون أن لا ينزع منهم ما كان قصى جعل إليهم. فكان صاحب أمر بنى عبد مناف عبد شمس بن عبد مناف، وذلك أنه كان أسن بنى عبد مناف، وكان صاحب أمر بنى عبدالدار عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبدالدار، فكان بنو أسد بن عبد العزى بن قصى، وبنو زهرة
[ 86 ]
ابن كلاب، وبنو تيم بن مرة بن كعب، وبنو الحارث بن فهر بن مالك بن النضر، مع بنى عبد مناف. وكان بنو مخزوم بن يقظة بن مرة، وبنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب، وبنو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب، وبنو عدى بن كعب، مع بنى عبدالدار. وخرجت عامر بن لؤى ومحارب بن فهر، فلم يكونوا مع واحد من الفريقين. فعقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا، ولا يسلم بعضهم بعضا ما بل بحر صوفة. فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا، فيزعمون أن بعض نساء بنى عبد مناف، أخرجتها لهم، فوضعوها لاحلافهم في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها، فتعاقدوا وتعاهدوا هم وحلفاؤهم، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم، فسموا المطيبين. وتعاقد بنو عبدالدار وتعاهدوا وحلفاؤهم عند الكعبة حلفا مؤكدا، على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا، فسموا الاحلاف. ثم سوند بين القبائل، ولز بعضها ببعض، فعبيت بنو عبد مناف لبنى سهم، وعبيت بنو أسد لبنى عبدالدار، وعبيت زهرة لبنى جمح، وعبيت بنو تيم لبنى مخزوم، وعبيت بنو الحارث بن فهر لبنى عدى بن كعب. ثم قالوا: لتفن كل قبيلة من أسند إليها (1). فبينا الناس على ذلك قد أجمعوا للحرب إذ تداعوا إلى الصلح، على أن يعطوا بنى عبد مناف السقاية والرفادة، وأن تكون الحجابة واللواء والندرة لبنى عبدالدار كما كانت. ففعلوا ورضى كل واحد من الفريقين بذلك، وتحاجز الناس عن الحرب، وثبت كل قوم مع من حالفوا، فلم يزالوا على ذلك، حتى
(1) في ا " من أسند إليه " (*).
[ 87 ]
جاء الله تعالى بالاسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كان من حلف في الجاهلية فإن الاسلام لم يزده إلا شدة. حلف الفضول قال ابن هشام: وأما حلف الفضول فحدثني زياد بن عبد الله البكائى عن محمد بن إسحاق قال: تداعت قبائل من قريش إلى حلف، فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى، لشرفه وسنه، فكان حلفهم عنده: بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسد ابن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول. قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمى أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لى به حمر النعم ولو أدعى به في الاسلام لاجبت. قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن عبد الله بن إسامة بن الهادى الليثى أن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمى حدثه أنه كان بين الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنهما، وبين الوليد بن عتبة بن أبى سفيان - والوليد يومئذ أمير على المدينة أمره عليها عمه معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه - منازعة في مال كان بينهما بذى المروة، فكأن الوليد تحامل على الحسين رضى الله عنه في حقه لسلطانه، فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفني من حقى أو لآخذن سيفى ثم لاقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لادعون بحلف الفضول. قال: فقال عبد الله بن الزبير - وهو عند الوليد
[ 88 ]
حين قال الحسين رضى الله عنه ما قال - وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفى، ثم لاقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعا. قال: فبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري، فقال مثل ذلك، وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن ****الله التيمى، فقال مثل ذلك، فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضى. قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهادى الليثى عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمى قال: قدم محمد بن جبير بن مطعم بن عدى بن نوفل بن عبد مناف - وكان محمد بن جبير أعلم قريش - على عبد الملك ابن مروان بن الحكم حين قتل ابن الزبير، واجتمع الناس على عبد الملك، فلما دخل عليه قال له: يا أبا سعيد، ألم نكن نحن وأنتم - يعنى بنى عبد شمس ابن عبد مناف، وبنى نوفل بن عبد مناف - في حلف الفضول ؟ قال: أنت أعلم، قال عبد الملك: لتخبرنى يا أبا سعيد بالحق من ذلك، فقال: لا والله، لقد خرجنا نحن وأنتم منه ! قال: صدقت. تم خبر حلف الفضول. قال ابن إسحاق: فولى الرفادة والسقاية هاشم بن عبد مناف، وذلك أن عبد شمس كان رجلا سفارا قلما يقيم بمكة، وكان مقلا ذا ولد، وكان هاشم موسرا، فكان - فيما يزعمون - إذ حضر الحاج قام في قريش فقال: " يا معشر قريش، إنكم جيران الله وأهل بيته، وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله وحجاج بيته، وهم ضيف الله، وأحق الضيف بالكرامة ضيفه، فاجمعوا لهم ما تصنعون لهم به طعاما أيامهم هذه التى لابد لهم من الاقامة بها (1)، فإنه والله لو كان مالى يسع لذلك ما كلفتكموه ". فيخرجون لذلك خرجا من أموالهم، كل امرئ بقدر ما عنده، فيصنع به للحجاج طعاما حتى يصدروا منها.
(1) في أصل ا " القيامة بها " (*)
[ 89 ]
وكان هاشم - فيما يزعمون - أول من سن الرحلتين لقريش: رحلتي الشتاء والصيف. وأول من أطعم الثريد بمكة، وإنما كان اسمه عمرا، فما سمى هاشما إلا بهشمه الخبز بمكة لقومه. فقال شاعر من قريش أو من بعض العرب: عمرو الذى هشم الثريد لقومه * قوم بمكة مسنتين عجاف سنت إليه الرحلتان كلاهما * سفر الشتاء ورحلة الاصياف قال ابن هشام: أنشدني بعض أهل العلم بالشعر من أهل الحجاز: * قوم بمكة مسنتين عجاف * قال إبن إسحاق: ثم هلك هاشم بن عبد مناف بغزة من أرض الشام تاجرا، فولى السقاية والرفادة من بعده المطلب بن عبد مناف، وكان أصغر من عبد شمس وهاشم، وكان ذا شرف في قومه وفضل، وكانت قريش إنما تسميه الفيض لسماحته وفضله. وكان هاشم بن عبد مناف قدم المدينة فتزوج سلمى بنت عمرو أحد بنى عدى بن النجار، وكانت قبله عند أحيحة بن الجلاح بن الحريش - قال ابن هشام: ويقال: الحريس - ابن جحجبى بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف ابن مالك بن الاوس، فولدت له عمرو بن أحيحة وكانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها حتى يشترطوا (1) لها أن أمرها بيدها، إذا كرهت رجلا فارقته. فولدت لهاشم عبد المطلب، فسمته شيبة، فتركه هاشم عندها حتى كان وصيفا أو فوق ذلك، ثم خرج إليه عمه المطلب لقبضه فيلحقه ببلده وقومه، فقالت له سلمى: لست بمرسلته معك، فقال لها المطلب، إنى غير منصرف حتى أخرج به معى، إن ابن أخى قد بلغ، وهو غريب في غير قومه، ونحن أهل بيت شرف في قومنا، نلى كثيرا من أمورهم، وقومه وبلده وعشيرته خير له من الاقامة في غيرهم، أو كما قال وقال شيبة لعمه المطلب - فيما يزعمون -: لست بمفارقها إلا أن
(1) في ا " يشرطوا لها " (*)
[ 90 ]
تأذن لى، فأذنت له، ودفعته إليه، فاحتمله فدخل به مكة مردفه معه على بعيره، فقالت قريش: عبد المطلب، ابتاعه، فبها سمى شيبة عبد المطلب. فقال المطلب: ويحكم ! إنما هو ابن أخى هاشم، قدمت به من المدينة. ثم هلك المطلب بردمان من أرض اليمن، فقال رجل من العرب يبكيه: قد ظمئ الحجيج بعد المطلب * بعد الجفان والشراب المنثعب * ليت قريشا بعده على نصب * وقال مطرود بن كعب الخزاعى، يبكى المطلب وبنى عبد مناف جميعا حين أتاه نعى نوفل بن عبد مناف، وكان نوفل آخرهم هلكا: يا ليلة هيجت ليلاتى * إحدى ليالى القسيات وما أقاسى من هموم وما * عالجت من رزء المنيات إذا تذكرت أخى نوفلا * ذكرني بالاوليات ذكرني بالازر الحمر والاردية الصفر القشيبات أربعة كلهم سيد * أبناء سادات لسادات ميت بردمان وميت بسلمان وميت عند غزات وميت أسكن لحدا لدى المحجوب شرقي البنيات أخلصهم عبد مناف فهم * من لوم من لام بمنجاة إن المغيرات وأبناءها من خير أحياء وأموات وكان اسم عبد مناف المغيرة، وكان أول بنى عبد مناف هلكا هاشما، بغزة من أرض الشام، ثم عبد شمس بمكة، ثم المطلب بردمان من أرض اليمن، ثم نوفلا بسلمان من ناحية العراق. فقيل لمطرود - فيما يزعمون - لقد قلت فأحسنت، ولو كان أفحل مما قلت (1) كان أحسن، فقال: أنظروني ليالى، فمكث أياما، ثم قال:
(1) في ا " أفحل مما هو لكان " (*)
[ 91 ]
يا عين جودى وأذرى الدمع وانهمرى * وابكى على السر من كعب المغيرات يا عين واسحنفرى بالدمع واحتفلي * وابكى خبيئة نفسي في الملمات وابكى على كل فياض أخى ثقة * ضخم الدسيعة وهاب الجزيلات محض الضريبة عالى الهم مخنلق * جلد النحيزة ناء بالعظيمات صعب البديهة، لا نكس ولا وكل * ماضى العزيمة متلاف الكريمات صقر توسط من كعب إذا نسبوا * بحبوحة المجد والشم الرفيعات ثم اندبى الفيض والفياض مطلبا * واستخرطي بعد فيضات بجمات أمسى بردمان عنا اليوم مغتربا * يا لهف نفسي عليه بين أموات وابكى، لك الويل، إما كنت باكية * لعبد شمس بشرقي البنيات وهاشم في ضريح وسط بلقعة * تسفى الرياح عليه بين غزات ونوفل كان دون القوم خالصتي * أمسى بسلمان في رمس بموماة لم ألق مثلهم عجما ولا عربا * إذا استقلت بهم أدم المطيات أمست ديارهم منهم معطلة * وقد يكونون زينا في السريات أفناهم الدهر أم كلت سيوفهم * أم كل من عاش أزواد المنيات ؟ أصبحت أرضى من الاقوام بعدهم * بسط الوجوه وإلقاء التحيات يا عين فابكى أبا الشعث الشجيات * يبكينه حسرا مثل البليات يبكين أكرم من يمشى على قدم * يعولنه بدموع بعد عبرات يبكين شخصا طويل الباع ذا فجر * آبى الهضيمة فراج الجليلات يبكين عمرو العلا إذ حان مصرعه * سمح السجية بسام العشيات ببكينه مستكينات على حزن * يا طول ذلك حزن وعولات يبكين لما جلاهن الزمان له * خضر الخدود كأمثال الحميات مختزمات على أوساطهن لما * جر الزمان من أحداث المصيبات أبيت ليلى أراعى النجم من ألم * أبكى وتبكى معى شجوى بنياتى
[ 92 ]
ما في القروم لهم عدل ولا خطر * ولا لمن تركوا شروى بقيات أبناؤهم خير أبناء، وأنفسهم * خير النفوس لدى جهد الاليات كم وهبوا من طمر سابح أرن * ومن طمرة نهب في طمرات ومن سيوف من الهندي مخلصة * ومن رماح كأشطان الركيات ومن توابع مما يفضلون بها * عند المسائل من بذل العطيات فلو حبست وأحصى الحاسبون معى * لم أقض أفعالهم تلك الهنيات هم المدلون إما معشر فخروا * عند الفخار بأنساب نقيات زين البيوت التى خلوا مساكنها * فأصبحت منهم وحشا خليات أقول والعين لا ترقا مدامعها: * لا يبعد الله أصحاب الرزيات قال ابن هشام: الفجر: العطاء. قال أبوخراش الهذلى: عجف أضيافي جميل بن معمر * بذى فجر تأوى إليه الارامل قال ابن إسحاق: أبو الشعث الشجيات: هاشم بن عبد مناف. قال: ثم ولى عبد المطلب بن هاشم السقاية والرفادة بعد عمه المطلب، فأقامها للناس، وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون قبله لقومهم من أمرهم، وشرف في قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه، وأحبه قومه وعظم خطره فيهم. ذكر حفر زمزم، وما جرى من الخلف فيها ثم إن عبد المطلب بينما هو نائم في الحجر إذ أتى فأمر بحفر زمزم. قال ابن إسحاق: وكان أول ما ابتدئ به عبد المطلب من حفرها، كما حدثنى يزيد بن أبى حبيب المصرى عن مرثد بن عبد الله اليزنى عن عبد الله ابن زرير الغافقي: أنه سمع على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه يحدث حديث زمزم حين أمر عبد المطلب بحفرها، قال: قال عبد المطلب: إنى لنائم في الحجر إذ أتانى آت فقال: احفر طيبة. قال: قلت: وما طيبة ؟ قال: ثم ذهب عنى، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر برة. قال:
[ 93 ]
فقلت: وما برة ؟ قال: ثم ذهب عنى. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر المضنونة. قال: فقلت: وما المضنونة ؟ قال: ثم ذهب عنى. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر زمزم، قال: قلت: وما زمزم ؟ قال: لا تنزف أبدا ولا تذم، تسقى الحجيج الاعظم، وهى بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الاعصم، عند قرية النمل. قال ابن إسحاق: فلما بين له شأنها، ودل على موضعها، وعرف أنه قد صدق، غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، ليس له يومئذ ولد غيره فحفر [ فيها ] فلما بدا لعبد المطلب الطى كبر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقا، فأشركنا معك فيها، قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الامر قد خصصت به دونكم، وأعطيته من بينكم، فقالوا له: فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها، قال: فاجعلوا بينى وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا: كاهنة بنى سعد هذيم، قال: نعم، قال: وكانت بأشراف الشام. فركب عبد المطلب ومعه نفر من بنى أبيه من بنى عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، قال: والارض إذ ذاك مفاوز. قال: فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام، فنى ماء عبد المطلب وأصحابه، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة فاستسقوا من معهم من قبائل قريش، فأبوا عليهم، وقالوا: إنا بمفازة، ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم، فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم وما يتخوف على نفسه وأصحابه، قال: ماذا ترون ؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك، فمرنا بما شئت، قال: فإنى أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه حتى يكون آخركم رجلا واحدا، فضيعة رجل واحد أيسر من ضعية ركب جميعا، قالوا: نعم ما أمرت به، فقام كل واحد منهم فحفر حفرته، ثم قعدوا
[ 94 ]
ينتظرون الموت عطشا، ثم إن عبد المطلب قال لاصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت، لا نضرب في الارض ولا نبتغى لانفسنا، لعجز، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، ارتحلوا، فارتحلوا. إذا فرغوا، ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون، تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها فلما انبعثت به انفجرت من تحت خفها عين من ماء عذب، فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستقوا حتى ملئوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش فقال: هلم إلى الماء، فقد سقانا الله، فاشربوا واستقوا، فجاءوا فشربوا واستقوا، ثم قالوا: قد والله قضى لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبدا، إن الذى سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذى سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدا، فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبينها. قال ابن إسحاق: فهذا الذى بلغني من حديث على بن أبى طالب رضى الله عنه في زمزم، وقد سمعت من يحدث عن عبد المطلب أنه قيل له حين أمر بحفر زمزم: ثم ادع بالماء الروى غير الكدر * يسقى حجيج الله في كل مبر * ليس يخاف منه شئ ما عمر * فخرج عبد المطلب - حين قيل له ذلك - إلى قريش فقال: تعلموا أنى قد أمرت أن أحفر [ لكم ] زمزم، فقالوا: فهل بين لك أين هي ؟ قال: لا، قالوا: فارج إلى مضجعك الذى رأيت فيه ما رأيت، فإن يك حقا من الله يبين لك، وإن يك من الشيطان فلن يعود إليك. فرجع عبد المطلب إلى مضجعه فنام فيه فأتى فقيل له: احفر زمزم، إنك إن حفرتها لم تندم، وهى تراث من أبيك الاعظم، لا تنزف أبدا ولا تذم، تسقى الحجيج الاعظم، مثل نعام جافل لم يقسم،
[ 95 ]
ينذر فيها ناذر لمنعم، تكون ميراثا وعقدا محكم، ليست كبعض ما قد تعلم، وهى بين الفرث والدم. قال ابن هشام: هذا الكلام والكلام الذى قبله في حديث على [ رضوان الله عليه ] في حفر زمزم من قوله: " لا تنزف أبدا ولا تذم " إلى قوله " عند قرية النمل " عندنا سجع، وليس شعرا. قال ابن إسحاق: فزعموا أنه حين قل له ذلك قال: وأين هي ؟ قيل له: عند قرية النمل، حيث ينقر الغراب غدا. والله أعلم أي ذلك كان. فغدا عبد المطلب ومعه ابنه الحارث، وليس له يومئذ ولد غيره، فوجد قرية النمل، ووجد الغراب ينقر عندها بين الوثنين: إساف ونائلة، اللذين كانت قريش تنحر عندهما ذبائحها، فجاء بالمعول وقام ليحفر حيث أمر، فقامت إليه قريش رأوا جده فقالوا: والله لا نتركك تحفر بين وثنينا هذين اللذين ننحر عندهما، فقال عبد المطلب لابنه الحارث: ذد عنى حتى أحفر، فوالله لامضين لما أمرت به، فلما عرفوا أنه غير نازع، خلوا بينه وبين الحفر وكفوا عنه، فلم يحفر إلا يسيرا حتى بدا له الطى، فكبر وعرف أنه قد صدق. فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزالين من ذهب، وهما الغزالان اللذان دفنت جرهم فيها حين خرجت من مكة، ووجد فيها أسيافا قلعية وأدراعا، فقالت له قريش: يا عبد المطلب لنا معك في هذا شرك وحق، قال: لا، ولكن هلم إلى أمر نصف بينى وبينكم: نضرب عليها بالقداح، قالوا: كيف تصنع ؟ قال: أجعل للكعبة قدحين، ولى قدحين، ولكم قدحين، فمن خرج له قدحاه على شئ كان له، ومن تخلف قدحاه فلا شئ له، قالوا: أنصفت، فجعل قدحين أصفرين للكعبة، وقدحين أسودين لعبد المطلب، وقدحين أبيضين لقريش، ثم أعطوا [ القداح ] صاحب القداح الذى يضرب بها عند هبل - وهبل: صنم في جوف الكعبة، وهو أعظم أصنامهم - وهو الذى يعنى أبو سفيان ابن حرب يوم أحد
[ 96 ]
حين قال: أعل هبل، أي أظهر دينك - وقام عبد المطلب يدعو الله عزوجل فضرب صاحب القداح فخرج الاصفران على الغزالين للكعبة، وخرج الاسودان على الاسياف والادراع لعبد المطلب، وتخلف قدحا قريش. فضرب عبد المطلب الاسياف بابا للكعبة، وضرب في الباب الغزالين من ذهب، فكان أول ذهب حليته، فيما يزعمون - ثم إن عبد المطلب أقام سقاية زمزم للحجاج. ذكر بئار قبائل قريش بمكة قال ابن هشام: وكانت قريش قبل حفر زمزم قد احتفرت بئارا بمكة، فيما حدثنا زياد بن عبد الله البكائى عن محمد بن إسحاق قال: حفر عبد شمس ابن عبد مناف الطوى، وهى البئر التى بأعلى مكة عند البيضاء، دار محمد بن يوسف [ الثقفى ]، وحفر هاشم بن عبد مناف بذر، وهى البئر التى عند المستنذر، خطم الخندمة على فم شعب أبى طالب، وزعموا أنه قال حين حفرها: لاجعلنها بلاغا للناس. قال ابن هشام: وقال الشاعر: سقى الله أمواها عرفت مكانها * جرابا، وملكوما، وبذر، والغمرا قال ابن إسحاق: وحفر سجلة، وهى بئر المطعم بن عدى بن نوفل بن عبد مناف التى يسقون عليها اليوم، ويزعم بنو نوفل أن المطعم ابتاعها من أسد ابن هاشم، ويزعم بنو هاشم أنه وهبها له حين ظهرت زمزم، فاستغنوا بها عن تلك الآبار. وحفر أمية بن عبد شمس الحفر لنفسه. وحفرت بنو أسد ابن عبد العزى شفية، وهى بئر بنى أسد. وحفرت بنو عبدالدار أم أحراد، وحفرت بنو جمح السنبلة، وهى بئر خلف بن وهب. وحفرت بنو سهم الغمر، وهى بئر بنى سهم. وكانت آبار حفائر خارجا من مكة قديمة من عهد مرة بن كعب، وكلاب
[ 97 ]
ابن مرة، وكبراء قريش الاوائل منها يشربون، وهى رم، ورم: بئر مرة بن كعب بن لؤى: وخم، وخم: بئر بنى كلاب بن مرة، والحفر. قال حذيفة ابن غانم أخو بنى عدى بن كعب بن لؤى. قال ابن هشام: وهو أبو أبي جهم بن حذيفة: وقدما غنينا قبل ذلك حقبة * ولا نستقي ألا نجم أو الحفر قال ابن هشام: وهذا البيت في قصيدة له، سأذكرها إن شاء الله في موضعها. قال ابن إسحاق: فعفت زمزم على البئار التى كانت قبلها يسقى عليها الحاج، وانصرف الناس إليها لمكانها من المسجد الحرام، ولفضلها على ما سواها من المياه، ولانها بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وافتخرت بها بنو عبد مناف على قريش كلها، وعلى سائر العرب، فقال مسافر بن أبى عمرو بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وهو يفخر على قريش بما ولوا عليهم من السقاية والرفادة، وما أقاموا للناس من ذلك، وبزمزم حين ظهرت لهم. وإنما كان بنو عبد مناف أهل بيت واحد، شرف بعضهم لبعض شرف، وفضل بعضهم لبعض فضل: ورثنا المجد من آبا * ئنا فنمى بنا صعدا ألم نسق الحجيج وننحر الدلافة الرفدا ونلقى عند تصريف المنايا شددا رفدا فإن نهلك فلم نملك * ومن ذا خالد أبدا ؟ وزمزم من أرومتنا * ونفقأ عين من حسدا قال ابن هشام: وهذه الابيات في قصيدة له. قال ابن إسحاق: وقال حذيفة بن غانم أخو بنى عدى بن كعب بن لؤى: وساقى الحجيج ثم للخير هاشم * وعبد مناف ذلك السيد الفهرى
[ 98 ]
طوى زمزما عند المقام فأصحبت * سقايته فخرا على كل ذى فخر قال ابن هشام: يعنى عبد المطلب بن هاشم. وهذا البيتان في قصيدة لحذيفة [ بن غانم ] سأذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى. ذكر نذر عبد المطلب ذبح ولده قال ابن إسحاق: وكان عبد المطلب بن هاشم - فيما يزعمون والله أعلم - قد نذر - حين لقى من قريش ما لقى عند حفر زمزم - لئن ولد له عشرة نفر، ثم بلغوا معه حتى يمنعوه، لينحرن أحدهم لله عند الكعبة. فلما توافي بنوه عشرة، وعرف أنهم سيمنعونه، جمعهم ثم أخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء لله بذلك، فأطاعوه وقالوا: كيف نصنع ! قال: ليأخذ كل رجل منكم قدحا ثم يكتب فيه اسمه، تم ائتونى، ففعلوا ثم أتوه، فدخل بهم على هبل في جوف الكعبة، وكان هبل على بئر في جوف الكعبة، وكانت تلك البئر هي التى يجمع فيها ما يهدى للكعبة. وكان عند هبل قداح سبعة، كل قدح منها فيه [ كتاب: قدح فيه ] " العقل " إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة، فإن خرج العقل فعلى من خرج حمله، وقدح فيه " نعم " للامر إذا أرادوه يضرب به في القداح، فإن خرج قدح " نعم " عملوا به، وقدح فيه " لا " إذا أرادوا أمرا ضربوا به في القداح، فإن خرج ذلك القداح لم يفعلوا ذلك الامر، وقدح فيه " منكم "، وقدح فيه " ملصق "، وقدح فيه " من غيركم "، وقدح فيه " المياه " إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح، وفيها ذلك القدح، فحيثما خرج عملوا به، وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاما، أو ينكحوا منكحا، أو يدفنوا ميتا، أو شكوا في نسب أحدهم، ذهبوا به إلى هبل وبمئة درهم وجزور فأعطوها صاحب القداح الذى يضرب بها، ثم قربوا صاحبهم الذى يريدون به ما يريدون، ثم قالوا: يا إلا هنا، هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا،
[ 99 ]
فأخرج الحق فيه، ثم يقولون لصاحب القداح، اضرب، فإن خرج عليه " منكم " كان منهم وسيطا، وإن خرج عليه " من غيركم " كان حليفا، وإن خرج عليه " ملصق " كان على منزلته فيهم، لا نسب له ولا حلف، وإن خرج فيه شئ، مما سوى هذا مما يعملون به " نعم " عملوا به، وإن خرج " لا " أخروه عامه ذلك حتى يأتوه به مرة أخرى، ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح. فقال عبد المطلب لصاحب القداح: اضرب على بنى هؤلاء بقداحهم هذه، وأخبره بنذره الذى نذر، فأعطاه كل رجل منهم قدحه الذى فيه اسمه، وكان عبد الله بن عبد المطلب أصغر بنى أبيه، كان هو الزبير وأبو طالب لفاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب ابن لؤى بن غالب بن فهر. قال ابن هشام: عائذ ابن عمران بن مخزوم. قال ابن إسحاق: وكان عبد الله - فيما يزعمون - أحب ولد عبد المطلب إليه، فكان عبد المطلب يرى أن السهم إذا أخطأه فقد أشوى. وهو أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أخذ صاحب القداح القداح ليضرب بها، قام عبد المطلب عند هبل يدعو الله، ثم ضرب صاحب القداح، فخرج القدح على عبد الله، فأخذه عبد المطلب بيده وأخذ الشفرة، ثم أقبل به إلى إساف ونائلة ليذبحه، فقامت إليه قريش من أنديتها، فقالوا: ما تريد يا عبد المطلب ؟ قال: أذبحه، فقالت له قريش وبنوه: والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه، لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه حتى يذبحه. فما بقاء الناس على هذا ! وقال المغيرة ابن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة، وكان عبد الله ابن أخت القوم: والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه، فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه. وقالت له قريش
[ 100 ]
وبنوه، لا تفعل، وانطلق به إلى الحجاز، فإن به عرافة لها تابع، فسلها، ثم أنت على رأس أمرك، إن أمرتك بذبحه ذبحته، وإن أمرتك بأمر لك وله فيه فرج قبلته. فانطلقوا حتى قدموا المدينة فوجدوها - فيما يزعمون - بخيبر، فركبوا حتى جاءوها فسألوها، وقص عليها عبد المطلب خبره وخبر ابنه، وما أراد به ونذره فيه، فقالت لهم: ارجعوا عنى اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله، فرجعوا من عندها فلما خرجوا عنها قام عبد المطلب يدعو الله، ثم غدوا عليها، فقالت لهم: قد جاءني الخبر، كم الدية فيكم ؟ قالوا: عشر من الابل، وكانت كذلك. قالت: فارجعوا إلى بلادكم، ثم قربوا صاحبكم وقربوا عشرا من الابل، ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح: فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الابل حتى يرضى ربكم، وإن خرجت على الابل فانحروها عنه، فقد رضى ربكم ونجا صاحبكم. فخرجوا حتى قدموا مكة، فلما أجمعوا على ذلك من الامر قام عبد المطلب يدعو الله، ثم قربوا عبد الله وعشر من الابل، وعبد المطلب قائم عن هبل يدعو الله عزوجل، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله، فزادوا عشرا من الابل، فبلغت الابل عشرين، وقام عبد المطلب يدعو الله عزوجل، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله، فزادوا عشرا من الابل، فبلغت الابل ثلاثين، وقام عبد المطلب يدعو الله، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله، فزادوا عشرا من الابل، فبلغت الابل أربعين، وقام عبد المطلب يدعو الله، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله، فزادوا عشرا من الابل، فبلغت الابل خمسين، وقام عبد المطلب يدعو الله، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله، فزادوا عشرا من الابل فبلغت الابل ستين، وقام عبد المطلب يدعو الله، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله، فزادوا عشرا من الابل، فبلغت الابل سبعين، وقام عبد المطلب يدعوا الله، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله، فزادوا عشرا من الابل،
[ 101 ]
فبلغت الابل ثمانين، وقام عبد المطلب يدعو الله، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله، فزادوا عشرا من الابل فبلغت تسعين، وقام عبد المطلب يدعو الله، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله، فزادوا عشرا من الابل، فبلغت الابل مئة، وقام عبد المطلب يدعو الله، ثم ضربوا فخرج القدح على الابل، فقالت قريش ومن حضر: قد انتهى رضا ربك يا عبد المطلب. فزعموا أن عبد المطلب قال: لا والله حتى أضرب عليها ثلاث مرات، فضربوا على عبد الله وعلى الابل، وقام عبد المطلب يدعو الله، فخرج القدح على الابل، ثم عادوا الثانية، وعبد المطلب قائم يدعو الله، فضربوا، فخرج القدح على الابل، ثم عادوا الثالثة، وعبد المطلب قائم يدعو الله، فضربوا، فخرج القدح على الابل، فنحرت ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا يمنع. قال ابن هشام: ويقال: إنسان ولا سبع. قال ابن هشام: وبين أضعاف هذا الحديث رجز لم يصح عندنا عن أحد من أهل العلم بالشعر. ذكر المرأة المتعرضة لنكاح عبد الله بن عبد المطلب قال ابن إسحاق: ثم انصرف عبد المطلب آخذا بيد عبد الله، فمر به - فيما يزعمون - على امرأة من بنى أسد بن عبد العزى بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر، وهى أخت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وهى عند الكعبة، فقالت له حين نظرت إلى وجهه: أين تذهب يا عبد الله ؟ قال: مع أبى، قالت: لك مثل الابل التى نحرت عنك وقع على الآن، قال: أنا مع أبى ولا أستطيع خلافه ولا فراقه. فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب ابن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر، وهو يومئذ سيد بنى زهرة نسبا
[ 102 ]
وشرفا، فزوجه ابنته آمنة بنت وهب، وهى يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا. وهى لبرة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبدالدار بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر. وبرة: لام حيبى بنت أسد بن عبد العزى بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر. وأم حبيب: لبرة بنت عوف بن **** بن عويج بن عدى بن كعب بن لؤى ابن غالب بن فهر. فزعموا أنه دخل عليها حين أملكها مكانه فوقع عليها، فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج من عندها، فأتى المرأة التى عرضت عليه ما عرضت، فقال لها: مالك لا تعرضين على اليوم ما كنت عرضت على بالامس ؟ فقالت له: فارقك النور الذى كان معك بالامس، فليس [ لى ] بك اليوم حاجة. وقد كانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل - وكان قد تنصر واتبع الكتب - أنه سيكون في هذه الامه نبى. قال ابن إسحاق: وحدثني أبى إسحاق بن يسار أنه حدث: أن عبد الله إنما دخل على امرأة كانت له مع آمنة بنت وهب، وقد عمل في طين له، وبه آثار من الطين، فدعاها إلى نفسه فأبطأت عليه لما رأت به من أثر الطين، فخرج من عندها فتوضأ وغسل ما كان به من ذلك الطين، ثم خرج عامدا إلى آمنة فمر بها، فدعته إلى نفسها، فأبى عليها، وعمد إلى آمنة، فدخل عليها فأصابها، فحملت بمحمد صلى الله عليه وسلم. ثم مر بامرأته تلك فقال لها: هل لك ؟ قالت: لا، مررت بى وبين عينيك غرة [ بيضاء ] فدعوتك فأبيت [ على ] ودخلت على آمنة فذهبت بها. قال ابن إسحاق: فزعموا أن امرأته تلك كانت تحدث: أنه مر بها وبين
[ 103 ]
عينيه [ غرة ] مثل غرة الفرس، فقالت: فدعوته رجاء أن تكون تلك بى فأبى على، ودخل على آمنة فأصابها، فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسط قومه نسبا، وأعظمهم شرفا من قبل أبيه وأمه، صلى الله عليه وسلم. ذكر ما قيل لآمنة عند حملها برسول الله صلى الله عليه وسلم ويزعمون - فيما يتحدث الناس والله أعلم - أن آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تحدث أنها أتيت، حين حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الامة، فإذا وقع إلى الارض فقول: أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد، ثم سميه محمدا. ورأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بصرى، من أرض الشام. ثم لم يلبث عبد الله بن عبد المطلب، أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن هلك، وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم حامل به. ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضاعه قال ابن إسحاق: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، لاثنتى عشرة ليلة خلت (1) من شهر ربيع الاول، عام الفيل، قال ابن إسحاق: حدثنى المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن أبيه عن جده قيس بن مخرمة قال: ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل فنحن لدان. قال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الانصاري، قال: حدثنى من شئت من رجال قومي، عن حسان بن ثابت، قال: والله إنى الغلام يفعة ابن
(1) في ا " مضت " (*)
[ 104 ]
سبع سنين أو ثمان، أعقل كل ما سمعت، إذ سمعت يهوديا يصرخ بأعلى صوته على أطمة بيثرب: يا معشر يهود. حتى إذا اجتمعوا إليه قالوا له: ويلك ! مالك ؟ قال: طلع الليلة نجم أحمد الذى ولد به. قال محمد بن إسحاق: فسألت سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فقلت: ابن كم كان [ حسان بن ثابت ] مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ؟ فقال: ابن ستين [ سنة ]، وقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، فسمع حسان ما سمع وهو ابن سبع سنين. قال ابن إسحاق: فلما وضعته أمه صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى جده عبد المطلب: إنه قد ولد لك غلام، فأته فانظر إليه، فأتاه فنظر إليه، وحدثته بما رأت حين حملت به، وما قيل لها فيهه، وما أمرت به أن تسميه فيزعمون أن عبد المطلب أخذه، فدخل به الكعبة فقام يدعو الله، ويشكر له ما أعطاه، ثم خرج به إلى أمه، فدفعه إليها، والتمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم الرضعاء. قال ابن هشام: المراضع. وفى كتاب الله تبارك وتعالى في قصة موسى عليه السلام: (وحرمنا عليه المراضع - 12 من سورة قصص). قال ابن إسحاق: فاسترضع له امرأة من بنى سعد بن بكر، يقال لها: حليمة، ابنة أبى ذؤيب. وأبو ذؤيب: عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة ابن فصية بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة ابن قيس بن عيلان. واسم أبيه الذى أرضعه صلى الله عليه وسلم: الحارث بن عبد العزى بن رفاعة بن ملان بن ناصرة بن فصية بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن.
[ 105 ]
قال ابن هشام: ويقال: هلال بن ناصرة. قال ابن إسحاق: وإخوته من الرضاعة: عبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وحذافة بنت الحارث، وهى الشيماء، غلب ذلك على اسمها فلا تعرف في قومها إلا به. وهم لحليمة بنت أبى ذؤيب عبد الله بن الحارث، أم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويذكرون أن الشيماء كانت تحضنه مع أمها إذا كان عندهم. قال ابن إسحاق: وحدثني جهم بن أبى جهم مولى الحارث بن حاطب الجمحى عن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب، أو عمن حدثه عنه، قال: كانت حليمة بنت أبى ذؤيب السعدية أم رسول الله صلى الله عليه وسلم التى أرضعته، تحدث: أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها صغير ترضعه، في نسوة من بنى سعد بن بكر، تلتمس الرضعاء، قالت: وذلك في سنة شهباء، لم تبق [ لنا ] شيئا. قال: فخرجت على أتان لى قمراء، معنا شارف لنا، والله ما تبض بقطرة، وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذى معنا، من بكائه من الجوع، ما في ثديى ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغديه - قال ابن هشام: ويقال يغذيه - ولكنا [ كنا ] نرجو الغيث والفرج، فخرجت على أتانى تلك، فلقد أدمت بالركب (1) حتى شق ذلك عليهم ضعفا وعجفا، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه، إذا قيل لها: إنه يتيم، وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبى الصبى، فكنا نقول: يتيم ! وما عسى أن تصنع أمه وجده ! فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة قدمت معى إلا أخذت رضيعا غيرى، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي: والله إنى لاكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا، والله لاذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، قال: لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن
(1) معناه أطلت مسافة السير على الركب لتمهلهم على وتأنيهم (*).
[ 106 ]
يجعل لنا فيه بركة. قالت: فذهبت إليه فأخذته، وما حملني على أخذه إلا أنى لم أجد غيره. قالت: فلما أخذته رجعت به إلى رحلى، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياى بما شاء من لبن، فشرب حتى روى، وشرب معه أخوه حتى روى، ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فإذا إنها لحافل، فحلب منها ما شرب وشربت [ معه ] حتى انتهينا ريا وشبعا فبتنا بخير ليلة، قالت: يقول صاحبي حين أصبحنا: تعلمي والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة. قالت: فقلت: والله إنى لارجو ذلك. قالت: ثم خرجنا وركبت [ أنا ] أتانى، وحملته عليها معى، فو الله لقطعت بالركب، ما يقدر عليها شئ من حمرهم، حتى إن صواحبي ليقلن لى: يابنة أبى ذؤيب، ويحك ! اربعى علينا، أليست هذه أتانك التى كنت خرجت عليها ؟ فأقول لهن: بلى والله، إنها لهى هي، فيقلن: والله إن لها لشأنا، قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بنى سعد، وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح على حين قدمنا به معنا شباعا لبنا، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة من لبن، ولا يجدها في ضرع، حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعى بنت أبى ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن، وتروح غنمي شباعا لبنا. فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته، وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا. قالت: فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شئ على مكثه فينا، لما كنا نرى من بركته. فكلمنا أمه وقلت لها: لو تركت بنى عندي حتى يغلظ، فإنى أخشى عليه وباء مكة، قالت: فلم نزل بها حتى ردته معنا. قالت: فرجعنا به، فوالله إنه بعد مقدمنا [ به ] بأشهر مع أخيه لفى بهم لنا خلف بيوتنا، إذا أتانا أخوه يشتد، فقال لى ولابيه، ذاك أخى القرشى قد أخذه
[ 107 ]
رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه، فشقا بطنه، فهما يسوطانه. قالت: فخرجت أنا وأبوه نحوه، فوجدناه قائما منتقعا وجهه. قالت: فالتزمته والتزمه أبوه، فقلنا له: مالك يا بنى ؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاني وشقا بطني، فالتمسا [ فيه ] شيئا لا أدرى ما هو. قالت: فرجعنا [ به ] إلى خبائنا قالت: وقال لى أبوه: يا حليمة، لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به، قالت: فاحتملناه فقدمنا به على أمه، فقالت: ما أقدمك [ به ] يا ظئر، وقد كنت حريصة عليه، وعلى مكثه عندك ؟ قالت: فقلت: قد بلغ الله بابنى وقضيت الذى على، وتخوفت الاحداث عليه، فأديته إليك كما تحبين، قالت: ما هذا شأنك، فاصدقيني خبرك. قالت: فلم تدعني حتى أخبرتها. قالت: أفتخوفت عليه الشيطان ؟ قالت: قلت: نعم، قالت: كلا، والله ما للشيطان عليه [ من ] سبيل، وإن لبنى لشأنا، أفلا أخبرك خبره ؟ قالت: [ قلت ] بلى، قالت: رأيت حين حملت به أنه خرج منى نور أضاء لى قصور بصرى من أرض الشام، ثم حملت به، فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف [ على ] ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته وإنه لواضع يديه بالارض رافع رأسه إلى السماء، دعيه عنك وانطلقي راشدة. قال ابن إسحاق: وحدثني ثور بن يزيد عن بعض أهل العلم - ولا أحسبه إلا عن خالد بن معدان الكلاعى - أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك ؟ قال: نعم، أنا دعوة [ أبى ] إبراهيم، وبشرى [ أخى ] عيسى، ورأت أمي حين حملت بى أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام، واسترضعت في بنى سعد بن بكر، فبينا أنا مع أخ لى خلف بيوتنا نرعى بهما لنا، إذ أتانى رجلان عليهما ثياب بيض بطست من ذهب مملوءة ثلجا، ثم أخذانى فشقا بطني واستخرجا قلبى، فشقاه،
[ 108 ]
فاستخرجا منه علقمة سوداء فطرحاها، ثم غسلا قلبى وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه، ثم قال أحدهما لصاحبه: زنه بعشرة من أمته، فوزننى بهم فوزنتهم، ثم قال: زنه بمئة من أمته، فوزننى بهم فوزنتهم، ثم قال: زنه بألف من أمته، فوزننى بهم فوزنتهم، فقال: دعه عنك، فوالله لو وزنتة بأمته لوزنها. قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من نبى إلا وقد رعى الغنم، قيل: وأنت يا رسول الله ؟ قال: وأنا. قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لاصحابه: أنا أعربكم، أنا قرشي، واسترضعت في بنى سعد بن بكر. قال ابن إسحاق: وزعم الناس - فيما يتحدثون، والله أعلم - أن أمه السعدية لما قدمت به مكة أضلها في الناس وهى مقبلة به نحو أهله، فالتمسته فلم تجده، فأتت عبد المطلب، فقالت له: إنى قد قدمت بمحمد هذه الليلة، فلما كنت بأعلى مكة أضلني، فوالله ما أدرى أين هو، فقام عبد المطلب عند الكعبة يدعو الله أن يرده، فيزعمون أنه وجده ورقة بن نوفل بن أسد، ورجل آخر من قريش، فأتيا به عبد المطلب، فقالا [ له ]: هذا ابنك وجدناه بأعلى مكة، فأخذه عبد المطلب، فجعله على عنقه وهو يطوف بالكعبة يعوذه ويدعو له، ثم أرسل (1) به إلى أمه آمنة. قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم: أن مما هاج أمه السعدية على رده إلى أمه - مع ما ذكرت لامه مما أخبرتها عنه - أن نفرا من الحبشة نصارى، رأوه معها حين رجعت به بعد فطامه، فنظروا إليه وسألوها عنه وقلبوه، ثم قالوا لها: لنأخذن هذا الغلام، فلنذهبن به إلى ملكنا وبلدنا، فإن هذا غلام كائن له شأن، نحن نعرف أمره، فزعم الذى حدثنى أنها لم تكد تنفلت به منهم.
(1) في ا " أرسله إلى أمه " (*)
[ 109 ]
وفاة آمنة وحال رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جده عبد المطلب بعدها قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه آمنة بنت وهب وجده عبد المطلب بن هاشم في كلاءة الله وحفظه، ينبته الله نباتا حسنا، لما يريد به من كرامته، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ست سنين، توفيت أمه آمنة بنت وهب. قال ابن إسحاق: حدثنى عبد الله بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنة توفيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ست سنين بالابواء، بين مكة والمدينة، كانت قد قدمت به على أخواله من بنى عدى بن النجار، تزيره إياهم، فماتت وهى راجعة به إلى مكة. قال ابن هشام: أم عبد المطلب بن هاشم: سلمى بنت عمرو النجارية، فهذه الخؤولة التى ذكرها ابن إسحاق لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم. قال ابن إسحاق: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جده عبد المطلب ابن هاشم، وكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له. قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر، حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب، إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني، فوالله إن له لشأنا، ثم يجلسه معه عليه الفراش، ويمسح ظهره بيده، ويسرد ما يراه يصنع. وفاة عبد المطلب وما رثى به من الشعر فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانى سنين هلك عبد المطلب بن هاشم، وذلك بعد الفيل بثماني سنين.
[ 110 ]
قال ابن إسحاق: حدثنى العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس عن بعض أهله: أن عبد المطلب توفى ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثمانى سنين. قال ابن إسحاق: حدثنى محمد بن سعيد بن المسيب: أن عبد المطلب لما حضرته الوفاة وعرف أنه ميت جمع بناته، وكن ست نسوة: صفية، وبرة، وعاتكة، وأم حكيم البيضاء، وأميمة، وأروى، فقال لهن: ابكين على حتى أسمع ما تقلن قبل أن أموت. قال ابن هشام: ولم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرف هذا الشعر، إلا أنه لما رواه عن محمد بن سعيد بن المسيب كتبناه. فقالت صفية بنة عبد المطلب تبكى أباها: أرقت لصوت نائحة بليل * على رجل بقارعة الصعيد ففاضت عند ذلكم دموعي * على خدى كمنحدر الفريد على رجل كريم غير وغل * له الفضل المبين على ال**** على الفياض شيبة ذى المعالى * أبيك الخير وارث كل جود صدوق في المواطن غير نكس * ولا شخت المقام ولا سنيد طويل الباع أروع شيظمى * مطاع في عشيرته حميد رفيع البيت أبلج ذى فضول * وغيث الناس في الزمن الجرود كريم الجد ليس بذى وصوم * يروق على المسود والمسود عظيم الحلم من نفر كرام * خضارمة ملاوثة أسود فلو خلد امرؤ لقديم مجد * ولكن لا سبيل إلى الخلود لكان مخلدا أخرى الليالى * لفضل المجد والحسب التليد وقالت برة بنت عبد المطلب تبكى أباها:
[ 111 ]
أعيني جودا بدمع درر * على طيب الخيم والمعتصر على ماجد الجد وارى الزناد * جميل المحيا عظيم الخطر على شيبة الحمد ذى المكرمات * وذى المجد والعز والمفتخر وذى الحلم والفصل في النائبات * كثير المكارم جم الفجر له فضل مجد على قومه * منير يلوح كضوء القمر أتته المنايا فلم تشوه * بصرف الليالى وريب القدر وقالت عاتكة بنت عبد المطلب تبكى أباها: أعيني جودا ولا تبخلا * بدمعكما بعد نون النيام أعيني واسحنفرا واسكبا * وشوبا بكاءكما بالتدام أعيني واسنخرطا واسجما * على رجل غير نكس كهام على الجحفل الغمر في النائبات * كريم المساعى وفى الذمام على شيبة الحمد وارى الزناد * وذى مصدق بعد ثبت المقام وسيف لدى الحرب صمصامة * ومردى المخاصم عند الخصام وسهل الخليقة طلق اليدين * وفى عد ملى صميم لهام تبنك في باذخ بيته * رفيع الذؤابة صعب المرام وقالت أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب تبكى أباها: ألا يا عين جودى واستهلى * وبكى ذا الندى والمكرمات ألا يا عين ويحك أسعفيني * بدمع من دموع هاطلات وبكى خير من ركب المطايا * أباك الخير تيار الفرات طويل الباع شيبة ذا المعالى * كريم الخيم محمود الهبات وصولا للقرابة هبرزيا * وغيثا في السنين الممحلات وليثا حين تشتجر العوالي * تروق له عيون الناظرات
[ 112 ]
عقيل بنى كنانة والمرجى * إذا ما الدهر أقبل بالهنات ومفزعها إذا ما هاج هيج * بداهية، وخصم المعضلات فبكيه ولا تسمى بحزن * وبكى، ما بقيت، الباكيات وقالت أميمة بنت عبد المطلب تبكى أباها: ألا هلك الراعى العشيرة ذو الفقد * وساقى الحجيج والمحامي عند المجد ومن يؤلف الضيف الغريب بيوته * إذا ما سماء الناس تبخل بالرعد كسبت وليدا خير ما يكسب الفتى * فلم تنفكك تزداد يا شيبة الحمد أبو الحارث الفياض خلى مكانه * فلا تبعدن فكل حى إلى بعد فإنى لباك ما بقيت وموجع * وكان له أهلا لما كان من وجدى سقاك ولى الناس في القبر ممطرا * فسوف أبكيه وإن كان في اللحد فقد كان زينا للعشيرة كلها * وكان حميدا حيث ما كان من حمد وقالت أروى بنت عبد المطلب تبكى أباها: بكت عينى وحق لها البكاء * على سمح سجيته الحياء على سهل الخليقة أبطحي * كريم الخيم نيته العلاء على الفياض شيبة ذى المعالى * أبيك الخير ليس له كفاء طويل الباع أملس شيظمى * أغر كأن غرته ضياء أقب الكشح أروع ذى فضول * له المجد المقدم والسناء أبى الضيم أبلج هبرزى * قديم المجد ليس له خفاء ومعقل مالك وربيع فهر * وفاصلها إذا التمس القضاء وكان هو الفتى كرما وجودا * وبأسا حين تنسكب الدماء إذا هاب الكماة الموت حتى * كأن قلوب أكثرهم هواء مضى قدما بذى ربد خشيب * عليه حين تبصره البهاء
[ 113 ]
قال ابن إسحاق: فزعم لى محمد بن سعيد بن المسيب أنه أشار برأسه وقد أصمت: أن هكذا فابكيننى. قال ابن هشام: [ و ] المسيب: ابن حزن بن أبى وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم. قال ابن إسحاق: وقال حذيفة بن غانم أخو بنى عدى بن كعب بن لؤى، يبكى عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ويذكر فضله وفضل قصى على قريش، وفضل ولده من بعده عليهم، وذلك أنه أخذ بغرم أربعة آلاف درهم بمكة، فوقف بها فمر به أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب فافتكه: أعيني جودا بالدموع على الصدر * ولا تسأما أسقيتما سبل القطر وجودا بدمع واسفحا كل شارق * بكاء امرئ لم يشوه نائب الدهر [ وسحا وجما واسجما ما بقيتما * على ذى حياء من قريش وذى ستر ] على رجل جلد القوى ذى حفيظة * جميل المحيا غير نكس ولا هدر على الماجد البهلول ذى الباع والندى * ربيع لؤى في القحوط وفى العسر على خير حاف من معد وناعل * كريم المساعى طيب الخيم والنجر وخيرهم أصلا وفرعا ومعدنا * وأحظاهم بالمكرمات وبالذكر وأولاهم بالمجد والحلم والنهى * وبالفضل عند المجحفات من الغبر على شيبة الحمد الذى كان وجهه * يضئ سواد الليل كالقمر البدر وساقى الحجيج ثم للخير هاشم * وعبد مناف ذلك السيد الفهرى طوى زمزما عند المقام فأصبحت * سقايته فخرا على كل ذى فخر ليبك عليه كل عان بكربة * وآل قصى من مقل وذى وفر بنوه سراة كهلهم وشبابهم * تفلق عنهم بيضة الطائر الصقر قصى الذى عادى كنانة كلها * ورابط بيت الله في العسر واليسر
[ 114 ]
فإن تك غالته المنايا وصرفها * فقد عاش ميمون النقيبة والامر وأبقى رجالا سادة غير عزل * مصاليت أمثال الردينية السمر أبو عتبة الملقى إلى حباءه * أغر هجان اللون من نفر غر وحمزة مثل البدر يهتز للندى * نقى الثياب والذمام من الغدر وعبد مناف ماجد ذو حفيظة * وصول لذى القربى رحيم بذى الصهر كهولهم خير الكهول، ونسلهم * كنسل الملوك لا تبور ولا تحرى متى ما تلاقى منهم الدهر ناشئا * تجده بإجريا أوائله يجرى هم ملئوا البطحاء مجدا وعزة * إذا استبق الخيرات في سالف العصر وفيهم بناة للعلا وعمارة * وعبد مناف جدهم جابر الكسر بإنكاح عوف بنته ليجيرنا * من اعدائنا إذا أسلمتنا بنو فهر فسرنا تهامى البلاد ونجدها بأمنة حتى خاضت العير في البحر وهم حضروا والناس باد فريقهم * وليس بها إلا شيوخ بنى عمرو بنوها ديارا جمة وطووا بها * بئارا تسح الماء من ثبج بحر لكى يشرب الحجاج منها وغيرهم * إذا ابتدروها صبح تابعة النحر ثلاثة أيام تظل ركابهم * مخيسة بين الاخاشب والحجر وقدما غنينا قبل ذلك حقبة * ولا نستقي إلا بخم أو الحفر وهم يغفرون الذنب ينقم دونه * ويعفون عن قول السفاهة والهجر وهم جمعوا حلف الاحابيش كلها * وهم نكلوا عنا غواة بنى بكر فخارج، إما أهلكن فلا تزل * لهم شاكرا حتى تغيب في القبر ولا تنس ما أسدى ابن لبنى فإنه * قد اسدي يدا محقوقة منك بالشكر وأنت ابن لبنى من قصى إذا انتموا * بحيث انتهى قصد الفؤاد من الصدر وأنت تناولت العلا فجمعتها * إلى محتد للمجد ذى ثبج جسر
[ 115 ]
سبقت وفت القوم بذلا وئائلا * وسدت وليدا كل ذى سودد غمر وأمك سر من خزاعة جوهر * إذا حصل الانساب يوما ذوو الخبر إلى سبأ الابطال تنمى وتنتمى * فأكرم بها منسوبة في ذرا الزهر أبو شمر منهم وعمرو بن مالك * وذو جدن من قومها وأبو الجبر وأسعد قاد الناس عشرين حجة * يؤيد في تلك المواطن بالنصر قال ابن هشام: " أمك سر من خزاعة "، يعنى أبا لهب، أمه لبنى بنت هاجر الخزاعى. وقوله " بإجريا أوائله " عن غير ابن إسحاق. قال ابن إسحاق: وقال مطرود بن كعب الخزاعى يبكى عبد المطلب وبنى عبد مناف: يأيها الرجل المحول رحله * هلا سألت عن آل عبد مناف هبلتك أمك لو حللت بدارهم * ضمنوك من جرم ومن إقراف [ الخالطين غنيهم بفقيرهم * حتى يعود فقيرهم كالكافي ] المنعمين إذا النجوم تغيرت * والظاعنين لرحلة الايلاف والمطعمين إذا الرياح تناوحت * حثى تغيب الشمس في الرجاف إما هلكت أبا الفعال فما جرى * من فوق مثلك عقد ذات نطاف إلا أبيك أخى المكارم وحده * والفيض مطلب أبى الاضياف قال ابن إسحاق: فلما هلك عبد المطلب بن هاشم ولى زمزم والسقاية عليها بعده العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ من أحدث إخوته سنا، فلم تزل إليه حتى قام الاسلام وهى بيده. فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم له على ما مضى من ولايته، فهى إلى آل العباس، بولاية العباس إياها، إلى [ هذا ] اليوم.
[ 116 ]
كفالة أبى طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عبد المطلب مع عمه أبى طالب، وكان عبد المطلب - فيما يزعمون - يوصى به عمه أبا طالب، وذلك لان عبد الله أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا طالب أخوان لاب وأم، أمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم. قال ابن هشام: عائذ: ابن عمران بن مخزوم. قال ابن إسحاق: وكان أبو طالب هو الذى يلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جده فكان إليه ومعه. قال ابن إسحاق: حدثنى يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير أن أباه حدثه أن رجلا من لهب - قال ابن هشام: ولهب: من أزد شنوءة - كان عائفا، فكان إذا قدم مكة أتاه رجال قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويعتاف لهم فيهم. قال: فأتى به أبو طالب وهو غلام، مع من يأتيه، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم شغله عنه شئ، فلما فرغ قال: أين الغلام ؟ على به. فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه عنه، فجعل يقول: ويلكم ! ردوا على الغلام الذى رأيت آنفا، فوالله ليكونن له شأن. قال: فانطلق به أبو طالب. قصة بحيرى قال ابن إسحاق: ثم إن أبا طالب خرج في ركب تاجرا إلى الشام، فلما تهيأ للرحيل وأجمع المسير صب به رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يزعمون - فرق له [ أبو طالب ]. وقال: والله لاخرجن به معى، ولا يفارقنى، ولا أفارقه أبدا، أو كما قال، فخرج به معه، فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام، وبها راهب يقال له بحيرى في صومعة له، وكان إليه علم أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب، إليه يصير علمهم عن كتاب فيها - فيما يزعمون -
[ 117 ]
يتوارثونه كابرا عن كابر. فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى، وكانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم ولا يعرض لهم، حتى كان ذلك العام. فلما نزلوا به قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا، وذلك - فيما يزعمون - عن شئ رآه وهو في صومعته. يزعمون أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في صومعته، في الركب حين أقبلوا، وغمامة تظله من بين القوم. قال: ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه. فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها، فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته، ثم أرسل إليهم، فقال: إنى قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا كلكم، صغيركم وكبيركم، وعبدكم وحركم، فقال له رجل منهم: والله يا بحيرى إن لك لشأنا اليوم ! فما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرا ! فما شأنك اليوم ؟ قال له بحيرى: صدقت، قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلوا منه كلكم، فاجتمعوا إليه، وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، من بين القوم، لحداثة سنه، في رحال القوم تحت الشجرة، فلما نظر بحيرى في القوم لم ير الصفة التى يعرف ويجد عنده، فقال: يا معشر قريش، لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي، قالوا له: يا بحيرى، ما تخلف عنك أحد ينبغى له أن يأتيك إلا غلام، وهو أحدث القوم سنا، فتخلف في رحالهم، فقال: لا تفعلوا، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم. قال: فقال رجل من قريش مع القوم: واللات والعزى، إن كان للؤما بنا أن يتخلف ابن عبد الله ابن عبد المطلب عن طعام من بيننا، ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم. فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا، وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا، قام إليه بحيرى، فقال [ له ]: يا غلام، أسألك بحق اللات والعزى إلا
[ 118 ]
ما أخبرتني عما أسألك عنه، وإنما قال له بحيرى ذلك لانه سمع قومه يحلفون بهما. فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال [ له ]: لا تسألني باللات والعزى، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما، فقال له بحيرى: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال له: سلنى عما بدالك. فجعل يسأله عن أشياء من حاله في نومه وهيئنه وأموره، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره، فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته، ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التى عنده. قال ابن هشام: وكان مثل أثر المحجم. قال ابن إسحاق: فلما فرغ أقبل على عمه أبى طالب، فقال له: ما هذا الغلام منك ؟ قال: ابني. قال له بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغى لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا، قال: فإنه ابن أخى، قال: فما فعل أبوه، قال: مات وأمه حبلى به، قال: صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه يهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فإن كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فأسرع به إلى بلاده. فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام فزعموا فيما روى الناس: أن زريرا وتماما ودريسا، وهم نفر من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما رآه بحيرى في ذلك السفر الذى كان فيه مع عمه أبى طالب، فأرادوه فردهم عنه بحيرى، وذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا به لم يخلصوا إليه، ولم يزل بهم حتى عرفوا ما قال لهم، وصدقوه بما قال، فتركوه وانصرفوا عنه. فشب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يكلؤه ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية، لما يريد به من كرامته ورسالته، حتى بلغ أن كان
[ 119 ]
رجلا، أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والاخلاق التى تدنس الرجال تنزها وتكرما، حتى ما اسمه في قومه إلا الامين، لما جمع الله فيه من الامور الصالحة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لى - يحدث عما كان الله يحفظه به في صغره وأمر جاهليته، أنه قال: لقد رأيتنى في غلمان قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان، كلنا قد تعرى، وأخذ إزاره فجعله على رقبته، يحمل عليه الحجارة، فإنى لاقبل معهم كذلك وأدبر، إذ لكمنى لاكم ما أراه، لكمة وجيعة، ثم قال: شد عليك إزارك، قال: فأخذته على ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزارى على من بين أصحابي. حرب الفجار قال ابن هشام: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة - فيما حدثنى أبو ****ة النحوي عن أبى عمرو بن العلاء - هاجت حرب الفجار بين قريش ومن معهم من كنانة، وبين قيس عيلان. وكان الذى هاجها أن عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة ابن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، أجار لطيمة للنعمان بن المنذر فقال له البراض بن قيس، أحد بنى ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة: أتجيرها على كنانة ؟ قال: نعم، وعلى الخلق [ كله ] فخرج فيها عروة الرحال وخرج البراض يطلب غفلته، حتى إذا كان بتيمن ذى طلال بالعالية، غفل عروة، فوثب عليه البراض فقتله في الشهر الحرام، فلذلك سمى " الفجار " وقال البراض في ذلك: وداهية تهم الناس قبلى * شددت لها بنى بكر ضلوعي هدمت بها بيوت بنى كلاب * وأرضعت الموالى بالضروع
[ 120 ]
رفعت له يدى بذى طلال * فخر يميد كالجذع الصريع وقال لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب: أبلغ، إن عرضت، بنى كلاب * وعامر، والخطوب لها موالى وبلغ، إن عرضت، ينى نمير * وأخوال القتيل بنى هلال بأن الوافد الرحال أمسى * مقيما عند تيمن ذى طلال وهذه الابيات في أبيات له فيما ذكر ابن هشام. قال ابن هشام: فأتى آت قريشا فقال: إن البراض قد قتل عروة، وهم في الشهر الحرام بعكاظ، فارتحلوا وهوازن لا تشعر [ بهم ]، ثم بلغهم الخبر فأتبعوهم، فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم، فاقتتلوا حتى جاء الليل، ودخلوا الحرم، فأمسكت عنهم هوازن، ثم التقوا بعد هذا اليوم أياما، والقوم متساندون، على كل قبيل من قريش وكنانة رئيس منهم، وعلى كل قبيل من قيس رئيس منهم. وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أيامهم، أخرجه أعمامه معهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كنت أنبل على أعمامي " أي أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها. قال ابن إسحاق: هاجت حرب الفجار ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة. وإنما سمى " يوم الفجار " بما استحل هذان الحيان، كنانة وقيس عيلان، فيه من المحارم بينهم. وكان قائد قريش وكنانة حرب [ بن ] أمية بن عبد شمس، وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة، حتى إذا كان في وسط النهار كان الظفر لكنانة على قيس. قال ابن هشام: وحديث الفجار أطول مما ذكرت، وإنما منعنى من استقصائه قطعه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[ 121 ]
حديث تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة رضى الله عنها قال ابن هشام: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة تزوج خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصى بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤى بن غالب، فيما حدثنى غير واحد من أهل العلم عن أبى عمر المدنى. قال ابن إسحاق: وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه، بشئ تجعله لهم، وكانت قريش قوما تجارا، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها: من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه، بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجرا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطى غيره من التجار، مع غلام لها يقال له ميسرة، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب من الرهبان، فاطلع الراهب إلى ميسرة، فقال له: من هذا الرجل الذى نزل تحت هذه الشجرة ؟ قال له ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبى. ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم سلعته التى خرج بها، واشترى ما أراد أن يشترى، ثم أقبل قافلا إلى مكة ومعه ميسرة، فكان ميسرة - فيما يزعمون - إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس، وهو يسير على بعيره، فلما قدم مكة على خديجة بمالها، باعت ما جاء به، فاضعف أو
[ 122 ]
قريبا. وحدثها مسيرة عن قول الراهب، وعما كان يرى من إظلال الملكين إياه. وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة، مع ما أراد الله بها من كرامته فلما أخبرها ميسرة بما أخبرها به بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له فيما يزعمون: يابن عم، إنى قد رغبت فيك لقرابتك، وسطنك في قومك، وأمانتك، وحسن خلقك، وصدق حديثك، ثم عرضت عليه نفسها. وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسبا، وأعظمهن شرفا، وأكثرهن مالا، كل قومها كان حريصا على ذلك منها لو يقدر عليه. وهى خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصى بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر. وأمها: فاطمة بنت زائدة بن الاصم ابن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤى بن غالب بن فهر. وأم فاطمة: هالة بنت عبد مناف بن الحارث بن عمرو بن منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤى بن غالب بن فهر. وأم هالة: قلابة بنت سعيد بن سعد ابن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر. فلما قالت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك لاعمامه، فخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب، رحمه الله، حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فتزوجها. قال ابن هشام: وأصدقها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين بكرة، وكان أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت، رضى الله عنها. قال ابن إسحاق: فولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولده كلهم إلا إبراهيم: القاسم، وبه كان يكنى صلى الله عليه وسلم، والطاهر، والطيب، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة عليهم السلام. قال ابن هشام: أكبر بنيه القاسم، ثم الطيب، ثم الطاهر، وأكبر بناته
[ 123 ]
رقية، ثم زينب، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة. قال ابن إسحاق: فأما القاسم، والطيب، والطاهر، فهلكوا في الجاهلية، وأما بناته فكلهن أدركن الاسلام، فأسلمن وهاجرن معه صلى الله عليه وسلم. قال ابن هشام: وأما إبراهيم فأمه مارية [ القبطية ]. حدثنا عبد الله بن وهب عن ابن لهيعة قال: أم إبراهيم: مارية سرية النبي صلى الله عليه وسلم التى أهداها إليه المقوقس من حفن من كورة أنصنا. قال ابن إسحاق: وكانت خديجة بنت خويلد قد ذكرت لورقة بن نوفل ابن أسد بن عبد العزى - وكان ابن عمها، وكان نصرانيا قد تتبع الكتب وعلم من علم الناس - ما ذكر لها غلامها ميسرة من قول الراهب، وما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه، فقال ورقة: لئن كان هذا حقا يا خديجة، إن محمدا لنبى هذه الامة. وقد عرفت أنه كائن لهذه الامة نبى ينتظر، هذا زمانه، أو كما قال. [ قال ]: فجعل ورقة يستبطئ الامر ويقول: حتى متى ؟ فقال ورقة في ذلك: لججت وكنت في الذكرى لجوجا * لهم طالما بعث النشيجا ووصف من خديجة بعد وصف * فقد قال انتظاري يا خديجا ببطن المكتين على رجائي * حديثك أن أرى منه خروجا بما خبرتنا من قول قس * من الرهبان أكره أن يعوجا بأن محمدا سيسود فينا * ويخصم من يكون له حجيجا ويظهر في البلاد ضياء نور * يقيم به البرية أن تموجا فيلقى من يحاربه خسارا * ويلقى من يسالمه فلوجا فياليتى إذا ما كان ذاكم * شهدت فكنت أولهم ولوجا ولوجا في الذى كرهت قريش * ولو عجت بمكتها عجيجا
[ 124 ]
أرجى بالذى كرهوا جميعا * إلى ذى العرش إن سفلوا عروجا وهل أمر السفالة غير كفر * بمن يختار من سمك البروجا فإن يبقوا وأبق تكن أمور * يضج الكافرون لها ضجيجا وإن أهلك فكل فتى سيلقى * من الاقدار متلفة حروجا حديث بنيان الكعبة، وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش في وضع الحجر قال ابن إسحاق: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها وإنما كانت رضما فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرا سرقوا كنز للكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة، وكان الذى وجد عنده الكنز دويكا، مولى لبنى مليح بن عمرو، من خزاعة - قال ابن هشام فقطعت قريش يده، وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك - وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطى نجار، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها. وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التى كان يطرح فيها ما يهدى لها كل يوم، فتتشرق على جدار الكعبة، وكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت وكشت وفتحت فاها، وكانوا يهابونها. فبينا هي ذات يوم تتشرق على جدار الكعبة، كما كانت تصنع، بعث الله إليها طائرا فاختطفها فذهب بها، فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله قد رضى ما أردنا: عندنا عامل رفيق، وعندنا خشب، وقد كفانا الله الحية. فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها، قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد ابن عمران بن مخزوم - قال ابن هشام: عائذ: ابن عمران بن مخزوم - فتناول من
[ 125 ]
الكعبة حجرا، فوثب من يده، حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا، لا يدخل فيها مهر بغى، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس، والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. قال ابن إسحاق: وقد حدثنى عبد الله بن أبى نجيح المكى أنه حدث عن عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤى. أنه رأى ابنا لجعدة بن هبيرة بن أبى وهب بن عمرو يطوف بالبيت، فسأل عنه فقيل: هذا ابن لجعدة بن هبيرة، فقال عبد الله ابن صفوان عند ذلك: جد هذا - يعنى أبا وهب - الذى أخذ حجرا من الكعبة حين أجمعت قريش لهدمها، فوثب من يده، حتى رجع إلى موضعه، فقال عند ذلك: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا، لا تدخلوا فيها مهر بغى، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس. قال ابن إسحاق: وأبو وهب خال أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شريفا، وله يقول شاعر من العرب: ولو بأبى وهب أنخت مطيتي * غدت من نداه رحلها غير خائب بأبيض من فرعى لؤى بن غالب * إذا حصلت أنسابها في الذوائب أبى لاخذ الضيم يرتاح للندى * توسط جداه فروع الاطايب عظيم رماد القدر يملا جفانه * من الخبز يعلوهن مثل السبائب ثم إن قريشا جزأت الكعبة، فكان شق الباب لبنى عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الاسود والركن اليماني لبنى مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبنى جمح وسهم، ابني عمرو بن هصيص بن كعب ابن لؤى، وكان شق الحجر لبنى عبدالدار بن قصى، ولبنى أسد بن عبد العزى
[ 126 ]
ابن قصى، ولبنى عدى بن كعب بن لؤى وهو الحطيم. ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول، ثم قام عليها، وهو يقول: اللهم لم ترع - قال ابن هشام: ويقال: لم نزغ - اللهم إنا لا نريد إلا الخير. ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شئ فقد رضى الله صنعنا، فهدمنا، فأصبح الوليد من ليلته غاديا على عمله، فهدم وهدم الناس معه، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الاساس، أساس إبراهيم، عليه السلام، أفضوا إلى حجارة خضر كالاسمنة (1) آخذ بعضها بعضا. قال ابن إسحاق: فحدثني بعض من يروى الحديث أن رجلا من قريش، ممن كان يهدمها، أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر تنقضت (2) مكة بأسرها، فانتهوا عن ذلك الاساس. قال ابن إسحاق: وحدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية فلم يدروا ما هو حتى قرأه لهم رجل من يهود، فإذا هو: إنا الله ذو بكة، خلقتها يوم خلقت السموات والارض، وصورت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، لا تزول حتى يزول أخشباها، مبارك لاهلها في الماء واللبن. قال ابن هشام: أخشباها: جبلاها. قال ابن إسحاق: وحدثت أنهم وجدوا في المقام كتابا فيه: مكة بيت الله الحرام، يأتيها رزقها من ثلاث سبل، لا يحلها أول من أهلها. قال ابن إسحاق: وزعم ليث بن أبى سليم أنهم وجدوا حجرا في الكعبة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة، إن كان ما ذكر حقا، مكتوبا فيه: من يزرع خيرا يحصد غبطة، ومن يزرع شرا يحصد ندامة، تعملون
(1) يروى " كالاسنة " جمع سنان (2) يريد: اهتزت (*)
[ 127 ]
السيئات، وتجزون الحسنات ! أجل، لا يجتنى من الشوك العنب. قال ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها، حتى بلغ البنيان موضع الركن، فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الاخرى، حتى تحاوروا وتحالفوا وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبدالدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم وبنو عدى ابن كعب بن لؤى على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا " لعقة الدم " فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد وتشاوروا وتناصفوا. فزعم بعض أهل الرواية: أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر ابن مخزوم - وكان عامئذ أسن قريش كلها - قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضى بينكم فيه، ففعلوا. فكان أول داخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الامين، رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال صلى الله عليه وسلم: هلم إلى ثوبا، فأتى به، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا، ففعلوا، حتى إذا بلغوا بن موضعه وضعه هو يبده، ثم بنى عليه. وكانت قريش تسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل أن ينزل عليه الوحى " الامين " فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا، قال الزبير ابن عبد المطلب، فيما كان من أمر الحية التى كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها: عجبت لما تصوبت العقاب * إلى الثعبان وهى لها اضطراب وقد كانت يكون لها كشيش * وأحيانا يكون لها وثاب إذا قمنا إلى التأسيس شدت * تهيبنا البناء وقد تهاب فلما أن خشينا الرجز جاءت * عقاب تتلئب لها انصباب
[ 128 ]
فضمتها إليها ثم خلت * لنا البنيان ليس له حجاب فقمنا حاشدين إلى بناء * لنا منه القواعد والتراب غداة نرفع التأسيس منه * وليس على مسوينا ثياب أعز به المليك بنى لؤى * فليس لاصله منهم ذهاب وقد حشدت هناك بنو عدى * ومرة قد تقدمها كلاب فبوأنا المليك بذاك عزا * وعند الله يلتمس الثواب قال ابن هشام: ويروى: * وليس على مساوينا ثياب * وكانت الكعبة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانى عشرة ذراعا، وكانت تكسى القباطى، ثم كسيت البرود، وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف. حديث الحمس قال ابن إسحاق: وقد كانت قريش - لا أدرى أقبل الفيل أم بعده - ابتدعت رأى الحمس رأيا رأوه وأداروه، فقالوا: نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت وقطان مكة (1) وساكنها، فليس لاحد من العرب مثل حقنا، ولا مثل منزلتنا، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخف العرب بحرمتكم وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم. فتركوا الوقوف على عرفة والافاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ويرون لسائر العرب أن يقفوا عليها، وأن يفيضوا منها، إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم، فليس ينبغى لنا أن نخرج من الحرمة ولا نعظم غيرها كما نعظمها، نحن الحمس، والحمس أهل الحرم، ثم جعلوا لمن ولدوا من
(1) في ا " وقاطن مكة وساكنها " (*)
[ 129 ]
العرب من ساكن الحل والحرم مثل الذى لهم، بولادتهم إياهم: يحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم. وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك. قال ابن هشام: وحدثني أبو ****ة النحوي: أن بنى عامر بن صعصعة ابن معاوية بن بكر بن هوازن دخلوا معهم في ذلك، وأنشدني لعمرو ابن معد يكرب: أعباس لو كانت شيارا جيادنا * بتثليث ما ناصيت بعدى الاحامسا قال ابن هشام: تثليث: موضع من بلادهم. والشيار: [ السمان ] الحسان. يعنى بالاحامس: بنى عامر بن صعصعة. وبعباس: عباس بن مرداس السلمى، وكان أغار على بنى زبيد بتثليث. وهذا البيت من قصيدة لعمرو. وأنشدني للقيط بن زرارة الدارمي في يوم جبلة: أجذم إلى إنها بنو عبس * المعشر الجلة في القوم الحمس لان بنى عبس كانوا يوم جبلة حلفاء في بنى عامر بن صعصعة. ويوم جبلة يوم كان بين بنى حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وبين بنى عامر بن صعصعة، فكان الظفر فيه لبنى عامر بن صعصعة على بنى حنظلة، وقتل يومئذ لقيط بن زرارة بن عدس، وأسر حاجب بن زرارة ابن عدس، وانهزم عمرو بن عمرو بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم ابن مالك بن حنظلة، ففيه يقول جرير للفرزدق: كأنك لم تشهد لقيطا وحاجبا * وعمرو بن عمر وإذ دعوا يالدارم وهذا البيت في قصيدة له. ثم التقوا يوم ذى نجب، فكان الظفر لحنظلة على بنى عامر، وقتل يومئذ حسان بن معاوية الكندى، وهو ابن كبشة، وأسر يزيد بن الصعق
[ 130 ]
الكلابي، وانهزم الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب، أبو عامر بن الطفيل، ففيه يقول الفرزدق: (1) ومنهن إذا نجى طفيل بن مالك * على قرزل رجلا ركوض الهزائم ونحن ضربنا هامة ابن خويلد * نزيد على أم الفراخ الجواثم وهذا البيتان في قصيدة له. فقال جرير: ونحن خضبنا لابن كبشة تاجه * ولاقى امرأ في ضمة الخيل مصقعا وهذا البيت في قصيدة له. وحديث يوم جبلة ويوم ذى نجب أطول مما ذكرنا، وإنما منعنى من استقصائه ما ذكرت في حديث [ يوم ] الفجار. قال ابن إسحاق: ثم ابتدعوا في ذلك أمورا لم تكن لهم، حتى قالوا: لا ينبغى للحمس أن ياتقطوا الاقط، ولا يسلئوا السمن وهم حرم، ولا يدخلوا بيتا من شعر، ولا يستظلوا إن استظلوا في بيوت الادم ما كانوا حرما، ثم رفعوا في ذلك فقالوا: لا ينبغى لاهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل إلى الحرم، إذا جاءوا حجاجا أو عمارا، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس، فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة، فإن تكرم منهم متكرم من رجل أو امرأة، ولم يجد ثياب الحمس، فطاف في ثيابه التى جاء بها من الحل، ألقاها إذا فرغ من طوافه، ثم لم ينتفع بها ولم يمسها هو ولا أحد غيره أبدا. فكانت العرب تسمى تلك الثياب اللقى، فحملوا على ذلك العرب، فدانت به، ووقفوا على عرفات، وأفاضوا منها، وطافوا بالبيت عراة: أما الرجال
(1) البيتان في ديوان الفرزدق (ص 858) وقرزل: اسم فرس لطفيل بن مالك، وأم الفراخ: فسرها أبو ذر بالرماح، والصواب أنها كنية الرأس، والفرخ: مقدم الدماغ (*)
|