سيرة النبي (صلى الله وعليه وسلم)
[ 1 ]
سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم ألفها أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن يسار المطلبى المتوفى في سنة 151 من الهجرة وهذبها أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب، الحميري المتوفى في سنة 218 من الهجرة حقق أصلها، وضبط غرائبها، وعلق عليها محمد محيى الدين عبد الحميد - عفا الله تعالى عنه - وجميع حق إعادة الطبع محفوظ له - الجزء الاول يطلب من ناشره: مكتبة محمد علي صبيح وأولاده، بميدان الازهر بمصر
[ 2 ]
1383 ه*. 1963 م
[ 3 ]
إهداء الكتاب إلى خير من طلعت عليه الشمس، وسيد من أقلته الارض وأظلته السماء. إلى السراج المنير الذى انبثق في غياهب الجاهلية والناس يتيهون في بيداوات الجهل والتعصب والتقليد، فأنار الطريق للسائرين، وكشف الله به موضحات الاعلام. إلى البشير النذير الذى من الله ببعثته على الانسانية كلها، فدعا إلى الله بإذنه، وضرب المثل الاعلى للانسان الكامل في قوله وصمته، وفى سره وجهره، وفى فعله وتركه، وفى أحواله كلها. إلى صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، ومن آتاه الله الفضيلة والوسيلة والدرجة العالية الرفيعة. إلى الذى وسعت نفسه ما بين الارض وسمائها، واكتملت فيه الانسانية بمعانيها وأسمائها، وأدبه الله فكان تمام الآداب وحليتها وإنسان عينها.. إلى رسول الله وخيرته من خلقه. إلى من خصه الله بختم الشرائع، وزينه بالتقوى، وجعل البر شعاره، والعدل حليته، والصدق قوله، والوفاء طبيعته، والقصد في الامور كلها سيرته، والرشد سنته. أقدم هذا الكتاب، لانه بعض حديث الاجيال عنه، والحديث عنه نور العين وجلاء القلوب.
[ 5 ]
مقدمة
[ 6 ]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه. وبعد، فقد انقضى العصر الاول من عصور الاسلام المديدة والمسلمون لا يكتبون شيئا، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو بن العاص فقد كتب لنفسه ما سمعه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يحدث ذلك منهم اتفاقا، ولا صرفتهم عن الكتابة والتدوين شواغل - وإن تكن شواغلهم آنذاك كثيرة، ولكنه كان أمرا قد قصدوه عن تفكير وروية، فقد فكروا وتدبروا، وأعملوا الرأى، وقدحوا زناد الروية، فوجدوا ذلك واجبا لا معدى عنه ولا مناص لهم منه. ذلك بأنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا تكتبوا عنى، ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه، وحدثوا عنى ولا حرج، ومن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " وإذا كانوا لا يكتبون حديث رسول الله ولا شيئا مما يسمعون منه غير القرآن فهم أشد انصرافا عن كتابة غير ذلك من فتاوى الصحابة وخطبهم وأحوالهم وأخبارهم ووقائعهم في العدو، وهم يجدون لذلك سببا يحملهم على الانصراف عن كتابة غير القرآن، ذلك أنهم كانوا يخافون أن يختلط بعض ما يكتبونه بالقرآن فيدخل في كتاب الله تعالى الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ما ليس منه، أو يلتبس بعض القرآن ببعض ما كتبوه من غيره فيسقط من الكتاب الكريم بعض ما هو منه، لذلك رأوا ألا يكتبوا إلا القرآن، ليكون المكتوب هو القرآن، وليكون القرآن هو المكتوب. ومع أنهم لم يكونوا يكتبون غير القرآن صرفوا همهم، وبذلوا غاية وسعهم
[ 7 ]
وعنايتهم لتتبع أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله، ولم يتركوا شيئا مما يتصل بذلك إلا حفظته ذاكرتهم، ووعته قلوبهم، وروته ألسنتهم، ووهبهم الله صبرا على طلب ذلك عند أهله، والبحث عنه، مع حافظة واعية، ونفس صافية، وبصيرة نافذة، وقلب متدبر، وذهن يصل إلى قرارة ما يلقى إليه، ويتفهم المراد مما يسمع، ويعى حقيقة ما وقع له. انقضى على هذه الحال عصر الصحابة كله وصدر من عصر بنى أمية، بل أكثر عصر بنى أمية، فلما أفضت الخلافة في آخر القرن الاول إلى أمير المؤمنين الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز بن مروان فكر في الامر، ورأى كثيرا من العلماء الذين رووا حديث رسول الله وأخباره ووعوا علوم المسلمين يموتون من غير أن يخلفوا شيئا من مروياتهم واجتهاداتهم التى أفنوا فيها أعمارهم وأنفذوا في تحصيلها أكثر أوقاتهم، وخشى - إن دام الحال على ذلك - أن تضيع علوم المسلمين، وتذهب أخبار رسولهم، ثم قد يكون ذلك سببا في الكذب والاختلاف والوضع إذا بعد العهد وطال الزمن، ورأى - مع ذلك - أن الحجة التي من أجلها امتنع الصحابة ومن بعدهم عن الكتابة والتدوين - وهى الخوف من اختلاف ما ليس من القرآن به - قد زالت، فقد أصبح القرآن الكريم محفوظا في الصدور، مرويا في المصاحف، ثابتا، مقروءا في الامصار، بل رأى أن الامر قد صار إلى عكس ما كان عليه في عهد الصحابة، فلو أنهم سكتوا عن الكتابة كما سكتوا من قبل لذهب العلم وضاعت ثقة المسلمين - إذا طال الزمن - بما يروى لهم منه. وحينئذ كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبى بكر بن حزم - وهو شيخ من شيوخ المحدثين وكبارهم، وهو شيخ معمر والليث والاوزاعي ومالك وابن إسحاق وابن أبى ذئب - وكان ابن حزم نائب عمر بن عبد العزيز في الامرة والقضاء
[ 8 ]
على المدينة، كتب عمر إليه يقول " انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإنى خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولتفشوا العلم، والتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا " وأمر عمر غير ابن حزم بمثل ذلك، أمر محمد ابن مسلم بن شهاب الزهري - وهو أحد أئمة المسلمين، وعالم المدينة والشام، وشيخ مالك وابن أبى ذئب ومعمر والاوزاعي والليث - فدون له في ذلك كتابا. وبدأت من ذلك الوقت حركة التدوين والتصنيف، بدأت - كما ترى - بتدوين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لان عمر رسم لهم ذلك، فكان العالم يجمع ما يرويه من الحديث في كتاب، غير متقيد بتمييز الموضوعات وضم ما يندرج من مروياته تحت مسألة واحدة أو مسائل متشابهة في باب واحد، وربما صنف أحدهم كتابا من الحديث في باب واحد من أبواب التشريع، وكانت أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ ولادته إلى التحاقه بالرفيق الاعلى بعض ما عنى المحدثون بروايته، كما كانت بعض ما عنى العلماء بتدوينه على أنه جزء من الحديث. ثم جاء بعد ذلك وقت رتب فيه المحدثون كتبهم، ونسقوا تصانيفهم، فكانوا يضمون الاحاديث التى يستدل بها على شئ واحد أو على مسائل يجمعها شئ واحد تحت باب واحد، فباب للوضوء، وباب للصلاة، وباب للزكاة، وباب للحج، وباب للنكاح، وهلم جرا، وكان من بين هذه الابواب في الكتب الجامعة باب لاخبار النبي صلى الله عليه وسلم، يذكرون فيه ما يروونه عن ولادته ورضاعة وما بعدهما إلى بعثته، ثم يفصلون أحواله بعد البعثة في مكة من دعوة قريش إلى الدين وصبره على أذاهم له ولصحبه، ويفصلون كذلك أخباره في غزواته وجهاده وبعثه الرسل إلى الملوك والامراء وغير ذلك، وخصوا ذلك الباب أحيانا باسم " المغازى والسير ".
[ 9 ]
ثم جاء بعد ذلك دور من أدوار التصنيف كتبت فيه " المغازى والسير " في مؤلفات خاصة، وتوفر عليها جماعة من العلماء، وكان هؤلاء يقدمون ؟ بين يدى أخبار النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من القول في أخبار الجاهلية، كأخبار جرهم ودفن زمزم وحديث قصى بن كلاب وجمعه قريشا، ونحو ذلك مما هو شرح لبعض أخبار آباء النبي صلى الله عليه وسلم وأحوالهم وأحوال من عاصرهم. وقد كان أول من كتب في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم عروة بن الزبير ابن العوام - وهو رجل من أشرف قريش نسبا، فأبوه الزبير بن العوام، وأمه أسماء بنت أبى بكر الصديق، ومن معاصريه أبان بن ذى النورين الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وشرحبيل بن سعد أحد موالى الانصار، ووهب بن منبه، وهؤلاء الاربعة من علماء القرن الاول للهجرة، وقد مات أولهم في أخريات هذا القرن، وبقى الثلاثة بعده حتى سلخوا من القرن الثاني قليلا، وكان أطولهم أمدا شرحبيل بن سعد فإنه بقى حتى حطم ربع القرن الثاني. ثم جاء من بعد هؤلاء الاربعة طبقة أخرى، كان أشهر من كتب من علمائها في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة رجال، وهم عاصم بن قتادة المدنى الانصاري الظفرى، ومحمد بن مسلم بن ****الله بن عبد الله بن شهاب الزهري المكى، وعبد الله بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وهو ابن أبى بكر بن حزم الذى كتب إليه عمر بن عبد العزيز يأمره بتدوين حديث رسول الله، على ما أنبأتك من قبل. ثم جاء من بعد هذه الطبقة طبقة أخرى كان أشهر رجالها الذين صنفوا في هذا الفن موسى بن عقبة المدنى، مولى آل الزبير، المتوفى في سنة إحدى وأربعين ومائة، ومعمر بن راشد، مولى الازد البصري، المتوفى في سنة خمسين ومائة - ويقال: في سنة ثلاث وخمسين ومائة - ومحمد بن إسحاق بن يسار مولى قيس ابن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، وهو مؤلف أصل هذه السيرة التى بين
[ 10 ]
أيدينا الآن، وسنتحدث عنه حديثا خاصا في ترجمة تفردها له فيما يلى إن شاء الله تعالى، ومحمد بن عمر بن واقد الواقدي، مولى بنى هاشم - ويقال: مولى بنى سهم ابن أسلم - المتوفى في أواخر العقد الاول من القرن الثالث. ثم جاء من بعد هؤلاء محمد بن سعد صاحب الطبقات الكبرى، وهو راوية الواقدي الذى ذكرناه في أعيان الطبقة السابقة، وزياد بن عبد الله البكائى، وهو راوية ابن إسحاق صاحب أصل هذه السيرة. وجاء من بعد ذلك أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب، الحميرى، البصري، المصرى، المتوفى في أوائل أو أخريات العقد الثاني من القرن الثالث أو في أوائل العقد الثالث منه، وهو الذى انتهت إليه سيرة ابن إسحاق، ووقف عنده علمها، وإليه اليوم تنسب، حتى لم يعد أكثر الناس يعرفها إلا باسم " سيرة ابن هشام " وستعلم مبلغ أثره فيها متى أفضى بنا القول إلى الحديث عن هذا الكتاب. وقد ضاعت مصنفات الطبقتين الاولى والثانية ممن ذكرنا في هذه الكلمة، وعدا عليها الزمن فيما عدا عليه من علوم المسلمين ومصنفاتهم، فلم يعد لنا من هذه الكتب إلا اسمها الذى تجده في بعض مؤلفات المتقدمين من أمثال ابن النديم وبعض نقول عنها نجدها منتثرة في ثنايا مصنفات من جاء بعدهم من العلماء كالطبري وابن سعد والواقدى والبلاذري، ولولا هؤلاء الاعلام لما علمنا عن تصنيف هاتين الطبقتين شيئا، ولا بلغنا من علمهم قليل ولا كثير. فأما الطبقة الثالثة فهذا الكتاب الذى نعاني إخراجه اليوم أحد ثمرات رجل من رجالها هو محمد بن إسحاق، وإن لم يكن الكتاب الذى تراه هو المؤلف الذى وضعه محمد بن إسحاق، وقد بقى لنا من مؤلفات هذه الطبقة أيضا كتاب " المغازى " الذى صنفه محمد بن عمر الواقدي، وأما كتب موسى بن عقبة ومعمر ابن راشد فقد لحقت بآثار الطبقتين السابقتين، والامر لله الواحد القهار. فكتاب السيرة الذى تقدمه اليوم للقراء أقدم أثر وصل إلينا من آثار
[ 11 ]
علماء الاسلام في هذا الفن الاسلام الجليل، وهذه وحدها ميزة كافية للتوفر عليه والمبالغة في العناية به، وإحلاله المحل الذى يليق له من الثقة به والاعتماد عليه. صنفه مؤلفه محمد بن إسحاق بن يسار في أول عهد الخلفاء العباسيين، وهذبه مهذبه بعد تأليفه بنصف قرن أو يزيد قليلا، وهى المدة التى بين وفاتيهما، وهو يرويه عن مؤففه بواسطة رجل واحد هو زياد البكائى. وليس من شك عندنا ولا عند أحد من الناس أن الكتاب الذى وضعه محمد ابن إسحاق أكبر من هذا الكتاب الذى بين أيدينا اليوم وأوفر مادة وأكثر جمعا، وبخاصة في أخبار الجاهلية التى تسبق بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنا لا نشك في أن ابن هشام قد حافظ على عبارة ابن إسحاق فيما أبقاه من الكتاب: لم يغير منها كلمة، بل أداها كما رواها له زياد البكائى عن ابن إسحاق، وآية ذلك أنه يأتي بعبارة ابن إسحاق ولو لم تكن موافقة لما يعلمه هو، ثم يعقب عليها بقوله: قال ابن هشام، ويذكر ما يراه صوابا، سواء أكان ذلك في ذكر علم من أعلام الاناسى أم في ذكر رواية في غير ذلك، وأنت تراه يشرح كلمة يراها غامضة بكلمة أخرى أوضح منها، أو يذكر رواية أخرى في كلمة غير رواية ابن إسحاق، أو يستشهد على استعمال أسلوب أو لفظ، أو نحو ذلك مما تقف على مثال له في كل ورقة من أوراق الكتاب، وهو يبين لك في بعض الاحايين أنه أسقط في هذا الموضوع كلاما أو أبياتا أو خبرا، ويبين في أغلب الاحيان ما دعاه إلى ذلك ومن عجيب تحرى هذا الرجل ودقته أنه يروى لك خبرا طويلا أو قصيدة طويلة ثم يجئ في آخر الخبر أو القصيدة فيقول لك: كلمة كذا من غير ابن إسحاق. وأكثر ما ترك ابن هشام مما رواه ابن إسحاق متصلا بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في الشعر الذى يرويه ابن إسحاق بعد الغزوات، ولا يقتصر فعل ابن هشام في ذلك على الشعر الذى قاله المشركون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما يدعى بعض من ينسب نفسه إلى التحقيق من أهل هذا العصر، بل إنك
[ 12 ]
لتجد ابن هشام قد ترك في كثير من الاحيان شعرا من كلام شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى هجوا به المشركين، لانه وجد فيه من الاقذاع في الهجاء ما يصرفه عن روايته، وهذا أمر من الامور التى أكبرنا شأنها، وعظم عندنا من أجلها ابن هشام ومنهج ابن هشام، فإن روح الانصاف والعدل لتبدو جد واضحة في هذا الصنيع، فكما يحذف من شعر المشركين لان قائليه قد أقذعوا فيه يترك كذلك من شعر أصحاب النبي لانهم أقذعوا فيه، فليهون على أنفسهم أولئك الذين يرمون علماء المسلمين بالتعصب والعصبية، وبأنهم نقصوا الاخبار من أطرافها وحذفوا مما قيل في الرسول كثيرا، وليعلموا أن علماء المسلمين كانوا أحب الناس للنصفة، وأكثرهم تقديرا للعلم، وأعلاهم كعبا في بناء صرح الانسانية الكاملة، وكانوا - مع ذلك كله - أقدر الناس على تناسى الاحقاد ونبذ الضغائن حينما يعمدون إلى تدوين العلم وشرح مسائله، وليذكروا فوق هذا كله أن في القرآن الكريم الذى يتلوه المسلمون في محاريبهم وصلواتهم آيات تسجل عبارات من الهجو الذى قاله المشركون في رسول الله وقد ترك ابن هشام مما كتبه ابن إسحاق قسما كبيرا لم يكن في كتابته غناء ولا نفع، ولا هو - في جملته وتفصيله - مما يحتاجه الناس أو تقوم على صحته الادلة العلمية، وذلك حديث ما قبل إسماعيل وإبراهيم من بدء الخليقة، وحديث أبناء إسماعيل على التفصيل، وأخبار ليست من سيرة النبي في شئ، ولا هي مؤدية في جملتها وتفصيلها إلى شئ من ذلك، وترك كذلك أشعارا لم يجد أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وإن كان قد أبقى من هذا النوع كثيرا، غير أن الاعتذار عنه أمر قريب: فهو حين يذكر شعرا من هذا النوع ينبه بعد روايته أو قبلها بأنه لم ير أحدا من أهل العلم بالشعر يثبتها لمن نسبت إليه، وتجد ذلك كثيرا في الشعر الذى يذكر بعد الغزوات، وقد بين هو في مطلع كتابه ما أخذ وما ترك وسبب تركه ما ترك بيانا وافيا
[ 13 ]
وهذا عمل يستحق الثناء والحمد، وهو وحده مجهود ليس بالقليل، وهو - مع جلالته وما يحتاجه من الجهد - ليس كل ما صنع ابن هشام في سيرة ابن إسحاق بل هو يتجاوز ذلك إلى تحقيق الاعلام وذكر أوهام ابن إسحاق وما وقع له من الروايات التى تخالف ما رواه صاحب الاصل، سواء في ذلك ما يرتبط بأخبار الرسول وغير ما يرتبط بها، ويعلق على عبارات السيرة تعليقات من الشرح والنقد تدل على سعة اطلاع وكبير فضل، وإن لم يكن نقده الذى وجهه إلى ابن إسحاق أحيانا مما يشبع نهمه الذين يتطلعون إلى التحقيق العلمي، ولسنا نشك في أن ابن هشام كان مستطيعا أن يبلغ من ذلك إلى ما يريد هؤلاء وفوق ما يريدون، وأنه لو تعلقت رغبته بأن يبلغ هذا الشأو لما استعصى عليه، فقد كانت طرق النقد الدقيقة وبحث أحوال الرواة قد وضع المحدثون مبادئها وشرعوا في ترتيب أصولها، وكان هو من أهل العلم البارعين الواسعى الاطلاع ذلك بعض صنيع ابن هشام في سيرة ابن إسحاق، فلا جرم صارت نسبة السيرة إليه ليست من اغتصاب آثار السلف وانتحالها، ولم يعد لنا أن نعد على العلماء اعتبارهم هذا الكتاب من تصنيف ابن هشام وقد لقيت هذه السيرة من نباهة الذكر ما لم يلقه كتاب آخر من كتب السيرة، سواء في ذلك الكتب التى شاركتها في زمان التأليف والتى جاءت بعدها وقد كانت - ولا تزال إلى يوم الناس هذا - من أمهات المراجع التى يقصدها الباحثون في تاريخ حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما لقيت من عناية العلماء بشرح حوادثها وأبياتها والتعليق على أحاديثها وتخريجها وضبط كلماتها الشئ الكثير، كما لقيت من إقبال أهل العلم على قراءتها ما هي جديرة به، وبحسبك أن تعلم أنها قد طبعت في أورو بامرة وفى بولاق مرة ثم طبعت بعد ذلك في مصر مرارا وأنك تبحث الآن عن نسخة من إحدى هذه الطبعات فلا تجدها بعد البحث الطويل.
[ 14 ]
وقد كان من سوالف الاقضية أننى عنيت منذ سنين بقراءة هذا الكتاب وصححت كثير مما أصابه من التحريف بالرجوع إلى نسخ كثيرة منه وإلى كثير من كتب السيرة والتاريخ التى تنقل عبارة ابن إسحاق بحروفها كالطبري، وانتفعت في هذا الباب بكتاب " معجم البلدان " لياقوت، فإنه يذكر في الكلام على الاماكن التى وردت في السيرة عبارة ابن إسحاق، ويبين ما فيها من الخلاف، ويضبط ذلك كله، وانتفعت بشروح الكتاب كشرحي السهيلي وأبى ذر، وانتفعت بشرح الزرقاني على الشمائل المحمدية الذى يذكر عبارة ابن إسحاق كثيرا ويضبط حروفها، وانتفعت بشرحي " الشفا " لملا على القارى وللشهاب الخفاجى، وقد أخرجت منذ ربع قرن تقريبا نسخة من هذا الكتاب ظهر فيها أثر ما انتفعت به مما ذكرت من الكتب وغيرها، وقد نفذت هذه النسخة بعد ظهورها بقليل، وطال انتظار الناس إلى خروجها مرة أخرى، ثم رغب إلى ناشر هذه الطبعة في أن أتوفر على ضبط السيرة وتحقيقها دقيقا من غير أن أعلق عليها بشئ، فترددت كثيرا في قبول هذا العرض، لانه لا يظهر القرأة على الجهد الذى يبذل في تحقيقها وضبطها على الوجه المرغوب فيه، ولكني آمنت في آخر الامر بأن ظهورها على هذا الوجه خير من بقائها في زوايا النسيان، مع أنه قد يكون سببا في ظهورها مرة أخرى مع شرح واف وبيان كاف وبحسبي اليوم أننى ضبطت آيات القرآن الكريم، ودللت على موضعها من المصحف ببيان رقم الآية واسم السورة، وضبطت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وضبطت ما ورد من الشعر في هذا الكتاب على كثرته، وضبطت - بعد ذلك - غريب الكلمات والمشكل من الاعلام وتحريت أدق التحرى في اختيار الرواية التى أثق من نسبتها إلى ابن إسحاق حين تختلف العبارات، وإنى لارجو أن أكون قد أسديت إلى هذا الكتاب خدمة أستحق أن أنال به مثوبة الله
[ 15 ]
ورضوانه، وشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ربنا إنك تعلم ما نحفى وما نعلن، وما يخفى على الله من شئ في الارض ولا في السماء. ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي آخرة حسنة، وقنا عذاب النار. كتبه: المعتز بالله تعالى أبو رجاء محمد محيى الدين عبد الحميد عفا الله تعالى عنه
[ 1 ]
سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ألفها أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن يسار المطلبى المتوفى في سنة 151 من الهجرة بسم الله الرحمن الرحيم [ الحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد وآله أجمعين ] ذكر سرد النسب الزكي من محمد صلى الله عليه وسلم وآله إلى آدم عليه السلام قال أبو محمد عبد الملك بن هشام [ النحوي ]: هذا كتاب سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، واسم عبد المطلب: شيبة، بن هاشم، واسم هاشم: عمرو، بن عبد مناف، واسم عبد مناف: المغيرة، بن قصى، [ واسم قصى: زيد ] بن كلاب بن مرة بن كعب ابن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة، واسم مدركة: عامر، بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن [ أد، ويقال ]: أدد، بن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل بن إبراهيم - خليل الرحمن - بن تارح، وهو آزر، بن ناحور بن ساروغ (1) بن راعو بن فالخ بن عيبر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن لمك (2) بن متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس النبي - فيما يزعمون، والله أعلم، وكان أول بنى آدم أعطى النبوة، وخط بالقلم - ابن يرد بن مهليل بن قينن ابن يانش ابن شيث بن آدم صلى الله عليه وسلم. قال أبو محمد بن عبد الملك بن هشام: حدثنا زياد بن عبد الله البكائى عن محمد بن إسحاق المطلبى بهذا الذى ذكرت من نسب محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى آدم عليه السلام، وما فيه من حديث إدريس وغيره. <h5>(1) في ا " ساروح ". (2) في ا " لامك " (*) </h5><h1>[ 2 ]</h1><h4>قال ابن هشام: وحدثني خلاد بن قرة بن خالد السدوسى عن شيبان بن زهير بن شقيق بن ثور عن قتادة بن دعامة أنه قال: إسماعيل بن إبراهيم - خليل الرحمن - ابن تارح، وهو آزر، بن ناحور بن أسرغ بن أرعو بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن لمك (1) بن متوشلخ بن أخنوخ بن يرد بن مهلائيل بن قاين بن أنوش بن شيث بن آدم صلى الله عليه وسلم. قال ابن هشام: وأنا إن شاء الله مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم، ومن ولد رسول الله صلى الله عليه وآله من ولده، وأولادهم لاصلابهم، الاول فالاول، من إسماعيل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وما يعرض من حديثهم، وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل، على هذه الجهة، للاختصار، إلى حديث سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب، مما ليس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه ذكر، ولا نزل (2) فيه من القرآن شئ، وليس سببا لشئ من هذا الكتاب، ولا تفسيرا له، ولا شاهدا عليه، لما ذكرت من الاختصار، وأشعارا ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكره، وبعض لم يقر لنا البكائى بروايته، ومستقص إن شاء الله تعالى ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له، والعلم به. سياقة النسب من ولد إسماعيل عليه السلام قال ابن هشام: حدثنا زياد بن عبد الله البكائى عن محمد بن إسحاق المطلبى قال: ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام اثنى عشر رجلا: نابتا، وكان أكبرهم، وقيذر، وأذبل، وميشا، ومسمغا، وماشى، ودما، وأذر، وطيما ويطور، ونبش، وقيذما، وأمهم [ رعلة ] بنت مضاض بن عمرو، الجرهمى - <h5>(1) في ا " لامك " هنا أيضا. (2) في ا " وما نزل " (*). </h5><h1>[ 3 ]</h1><h4>قال ابن هشام: ويقال: مضاض. وجرهم ابن قحطان، وقحطان أبو اليمن كلها وإليه يجتمع نسبها - ابن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. قال ابن إسحاق: جرهم بن يقطن بن عيبر بن شالخ [ ويقطن هو قحطان بن عيبر بن شالخ ] قال ابن إسحاق: وكان عمر إسماعيل فيما يذكرون مئة سنة وثلاثين سنة، ثم مات رحمة الله وبركاته عليه، ودفن في الحجر مع أمه هاجر، رحمهم الله تعالى. قال ابن هشام: تقول العرب هاجر وآجر، فيبدلون الالف من الهاء، كما قالوا: هراق الماء، وأراق الماء وغيره. وهاجر من أهل مصر. قال ابن هشام: حدثنا عبد الله بن وهب عن عبد الله بن لهيعة عن عمر مولى غفرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: " الله الله في أهل الذمة، أهل المدرة السوداء السحم الجعاد، فإن لهم نسبا وصهرا ". قال عمر مولى غفرة: نسبهم أن أم إسماعيل النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم. وصهرهم أن رسول الله - صلى الله عليه وآله - تسرر فيهم. قال ابن لهيعة: أم إسماعيل: هاجر، أم العرب، من قرية كانت أمام الفرما من مصر. وأم إبراهيم: مارية سرية النبي - صلى الله عليه وآله - التى أهداها المقوقس من حفن من كورة أنصنا. قال ابن إسحاق: حدثنى محمد بن مسلم بن ****الله بن شهاب الزهري أن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك الانصاري ثم السلمى، حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم ذمة ورحما ". فقلت لمحمد بن مسلم الزهري: ما الرحم التى ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله لهم ؟ فقال: كانت هاجر أم إسماعيل منهم. قال ابن هشام: فالعرب كلها من ولد إسماعيل وقحطان. وبعض [ أهل ] اليمن يقول: قحطان من ولد إسماعيل، ويقول: إسماعيل أبو العرب كلها.
[ 4 ]
قال ابن إسحاق: عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وثمود وجديس ابنا عابر بن إرم بن سام بن نوح، وطسم وعملاق وأميم بنو لاوذ بن سام بن نوح: عرب كلهم. فولد نابت بن إسماعيل: يشجب بن نابت، فولد يشجب: يعرب بن يشجب، فولد يعرب، تيرح بن يعرب، فولد تيرح: ناحور بن تيرح، فولد ناحور: مقوم بن ناحور، فولد مقوم: أدد بن مقوم، فولد أدد: عدنان بن أدد. قال ابن هشام: ويقال: عدنان بن أد. قال ابن إسحاق: فمن عدنان تفرقت القبائل من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، فولد عدنان رجلين: معد بن عدنان، وعك بن عدنان. قال ابن هشام: فصارت عك في دار اليمن، وذلك أن عكا تزوج في الاشعريين، فأقام فيهم، فصارت الدار واللغة واحدة، والاشعريون بنو أشعر بن نبت بن أدد بن زيد بن هميسع بن عمرو بن عريب بن يشجب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ويقال: أشعر: ابن نبت بن أدد، ويقال: أشعر ابن مالك. ومالك: مذحج بن أدد بن زيد بن هميسع ويقال: أشعر ابن سبأ بن يشجب. وأنشدني أبو محرز خلف الاحمر وأبو ****ة، لعباس بن مرداس، أحد بنى سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار ابن معد بن عدنان، يفخر يعك: وعك بن عدنان الذين تلقبوا * بغسان حتى طردوا كل مطرد وهذا البيت في قصيدة له. وغسان: ماء بسد مأرب باليمن، كان شربا لولد مازن بن الاسد بن الغوث فسموا به، ويقال: غسان: ماء بالمشلل قريب من الجحفة، والذين شربوا منه فسموا به قبائل من ولد مازن بن الاسد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان. قال حسان بن ثابت الانصاري - والانصار بنو الاوس والخزرج،
[ 5 ]
ابني حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الاسد بن الغوث -: إما سألت فإنا معشر نجب * الاسد نسبتنا والماء غسان وهذا البيت في أبيات له. فقالت اليمن وبعض عك، وهم الذين بخراسان منهم: عك ابن عدنان بن عبد الله بن الاسد بن الغوث، ويقال: عدثان بن [ الديث بن ] عبد الله بن الاسد [ بن الغوث ]. قال ابن إسحاق: فولد معد بن عدنان أربعة نفر: نزار بن معد، وقضاعة بن معد، وكان قضاعة بكر معد الذى به يكنى فيما يزعمون، وقنص ابن معد، وإياد بن معد. فأما قضاعة فتيامنت إلى حمير بن سبأ - وكان اسم سبأ عبد شمس، وإنما سمى سبأ لانه أول من سبى في العرب - ابن يشجب (1) بن يعرب بن قحطان. قال ابن هشام: فقالت اليمن وقضاعة: قضاعة ابن مالك بن حمير. وقال عمرو بن مرة الجهنى، وجهينة: ابن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن إلحاف بن قضاعة: نحن بنو الشيخ الهجان الازهر * قضاعة بن مالك بن حمير النسب المعروف غير المنكر * [ في الحجر المنقوش تحت المنبر ] قال ابن إسحاق: وأما قنص بن معد فهلكت بقيتهم - فيما يزعم نساب معد - وكان منهم النعمان بن المنذر ملك الحيرة. قال إبن إسحاق: حدثنى محمد بن مسلم بن ****الله بن شهاب الزهري: أن النعمان بن المنذر كان من ولد قنص بن معد - قال ابن هشام: ويقال: قنص - قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الاخنس، عن شيخ من الانصار من بنى زريق أنه حدثه أن عمر بن الخطاب رضى الله <h5>(1) في أ هنا فقط " بن يعرب بن يشجب " وانظر ص 11 الآتية (*). </h5><h1>[ 6 ]</h1><h4>عنه - حين أتى بسيف النعمان بن المنذر - دعا جبير بن مطعم بن عدى بن نوفل ابن عبد مناف بن قصى - وكان جبير من أنسب قريش لقريش وللعرب قاطبة، وكان يقول: إنما أخذت النسب من أبى بكر الصديق رضى الله عنه، وكان أبو بكر الصديق أنسب العرب - فسلحه إياه - ثم قال: ممن كان - يا جبير - النعمان بن المنذر ؟ فقال: كان من أشلاء قنص بن معد. قال ابن إسحاق: فأما سائر العرب فيزعمون أنه كان رجلا من لخم، من ولد ربيعة بن نصر، فالله أعلم أي ذلك كان. قال ابن هشام: لخم: ابن عدى بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن هميسع بن عمرو بن عريب بن يشجب بن زيد بن كهلان بن سبأ، ويقال: لخم ابن عدى بن عمرو بن سبأ، ويقال: ربيعة ابن نصر بن أبى حارثة بن عمرو بن عامر، وكان تخلف باليمن بعد خروج عمرو بن عامر من اليمن. أمر عمرو بن عامر في خروجه من اليمن وقصة سد مأرب وكان سبب خروج عمرو بن عامر من اليمن - فيما حدثنى أبو زيد الانصاري - أنه رأى جرذا يحفر في سد مأرب، الذى [ كان ] يحبس عليهم الماء، فيصرفونه حيث شاءوا من أرضهم، فعلم أنه لا بقاء للسد على ذلك، فاعتزم على النقلة من اليمن، فكان قومه، فأمر أصغر ولده إذا أغلظ له ولطمه أن يقوم إليه فيلطمه، ففعل ابنه ما أمره به، فقال عمرو: لا أقيم ببلد لطم وجهى فيه أصغر ولدى، وعرض أمواله، فقال أشراف من أشراف [ أهل ] اليمن: اغتنموا غضبة عمرو، فاشتروا منه أمواله. وانتقل في ولده وولده ولده. وقالت الازد: لا نتخلف عن عمرو بن عامر، فباعوا أموالهم، وخرجوا معه، فساروا حتى نزلوا بلاد عك مجتازين يرتادون البلدان، فحاربتهم عك، فكانت حربهم سجالا، ففى ذلك
[ 7 ]
قال عباس بن مرداس البيت الذى كتبنا. ثم ارتحلوا عنهم فتفرقوا في البلدان فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامر الشام، ونزلت الاوس والخزرج يثرب، ونزلت خزاعة مرا، ونزلت أزد السراة السراة، ونزلت أزد عمان عمان، ثم أرسل الله على السد السيل فهدمه، ففيه أنزل الله تبارك وتعالى على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: " لقد كان لسبأ في مسكنهم آية، جنتان عن يمين وشمال، كلوا من رزق ربكم واشكروا له، بلدة طيبة ورب غفور فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم [ 15، 16 من سورة سبأ ] ". والعرم: السد، واحدته: عرمة، فيما حدثنى أبو ****ة. وقال الاعشى: أعشى بنى قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن على بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار ابن معد - قال ابن هشام: ويقال: أفصى بن دعمى بن جديلة - واسم الاعشى ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل بن عوف بن سعد بن ضبيعة بن قيس ابن ثعلبة وفي ذاك للمؤتسى أسوة * ومأرب عفى عليها العرم رخام بنته لهم حمير * إذا جاء مواره لم يرم فأروى الزروع وأعنابها * على سعة ماؤهم إذا قسم فصاروا أيادى ما يقدرو * ن منه على شرب طفل فطم وهذه الابيات في قصيدة له. وقال أمية ابن أبى الصلت الثقفى - واسم ثقيف قسى بن منبه بن بكر ابن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس (عيلان) بن مضر بن نزار بن معد [ بن عدنان ]: من سبأ الحاضرين مأرب إذ * يبنون من دون سيله العرما وهذا البيت في قصيدة له. وتروى للنابغة الجعدى، واسمه قيس بن عبد الله
[ 8 ]
أحد بنى جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر ابن هوزان. وهو حديث طويل، منعنى من استقصائه ما ذكرت من الاختصار. أمر ربيعة بن نصر ملك اليمن وقصة شق وسطيح الكاهنين معه قال ابن إسحاق: وكان ربيعة بن نصر ملك اليمن بين أضعاف (1) ملوك التبابعة فرأى رؤيا هالته وفظع بها، فلم يدع كاهنا، ولا ساحرا، ولا عائفا، ولا منجما من أهل مملكته إلا جمعه إليه، فقال لهم: إنى قد رأيت رؤيا هالتني، وفظعت بها، فأخبرني بها وبتأويلها، فقالوا له: اقصصها علينا نخبرك بتأويلها، قال: إنى إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها فإنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها، فقال له رجل منهم: فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح وشق، فإن ليس أحد أعلم منهما، فهما يخبرانه بما سأل عنه. واسم سطيح: ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدى بن مازن. وشق: ابن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن قسر بن عبقر بن أنمار ابن إراش، وأنمار أبو بجيلة وخثعم. قال ابن هشام: وقالت اليمن: وبجيلة: [ بنو ] أنمار بن إراش بن لحيان ابن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ، ويقال إراش: ابن عمر بن لحيان [ بن الغوث ] ودار بجيلة وخثعم يمانية. قال ابن إسحاق: فبعث إليهما، فقدم عليه سطيح قبل شق، فقال له: [ إنى قد ] رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها، فأخبرني بها، فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها قال: أفعل، رأيت حممة، خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض تهمة، فأكلت <h5>(1) في ا " من أضعاف " (*). </h5><h1>[ 9 ]</h1><h4>منها كل ذات جمجمة: فقال له الملك: ما أخطأت منها شيئا يا سطيح، فما عندك في تأويلها ؟ فقال: أحلف بما بين الحرتين من حنش، لتهبطن أرضكم الحبش، فليملكن ما بين أبين إلى جرش، فقال له الملك: وأبيك يا سطيح، إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن ؟ أفى زماني هذا أم بعده ؟ قال: لا، بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين، يمضين من السنين، قال أفيدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع ؟ قال: [ لا ] بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين ثم يقتلون ويخرجون منها هاربين، قال: ومن يلى ذلك من قتلهم وإخراجهم ؟ قال: يليه إرم [ بن ] ذى يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك أحدا منهم باليمن، قال: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع ؟ قال: لا، بل ينقطع، قال: ومن يقطعه ؟ قال نبى زكى، يأتيه الوحى من قبل العلى، قال: وممن هذا النبي ؟ قال: رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر، قال: وهل للدهر من آخر ؟ قال: نعم، يوم يجمع فيه الاولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون، قال: أحق ما تخبرني ؟ قال: نعم، والشفق والغسق، والفلق إذا اتسق، إن ما أنبأتك [ به ] لحق. ثم قدم عليه شق، فقال له كقوله لسطيح، وكتمه ما قال سطيح، لينظر أيتفقان أم يختلفان، فقال: نعم رأيت حممة، خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة. قال: فلما قال له ذلك عرف أنهما قد اتفقا، فإن قولهما واحد، إلا أن سطيحا قال: " وقعت بأرض تهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة ". وقال شق: " وقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة ". فقال له الملك: ما أخطأت يا شق منها شيئا، فما عندك في تأويلها ؟ قال أحلف بما الحرتين من إنسان، لينزلن أرضكم السودان، فليغلبن على كل طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران.
[ 10 ]
فقال له الملك: وأبيك يا شق، وإن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن ؟ أفى زماني أم بعده ؟ قال: لا، بل بعده پزمان، ثم يستنقذكم منهم عظيم ذوشان، ويذيقهم أشد الهوان، قال: ومن هذا العظيم الشان ؟ قال: غلام ليس بدنى، ولا مدن، يخرج عليهم من بيت ذى يزن، [ فلا يترك أحدا منهم باليمن ]، قال: أفيدوم سلطانه أم ينقطع ؟ قال: بل ينقطع برسول مرسل، يأتي بالحق والعدل، بين أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل، قال: وما يوم الفصل ؟ قال: يوم تجزى فيه الولاة، ويدعى فيه من السماء بدعوات، يسمع منها الاحياء والاموات، ويجمع فيه بين الناس للمقيات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات، قال: أحق ما تقول ؟ قال: إى ورب السماء والارض، وما بينهما من رفع وخفض، إن ما أنبأتك به لحق ما فيه أمض. قال ابن هشام: أمض: يعنى شكا، هذا بلغة حمير، وقال أبو عمرو: أمض، أي باطل. فوقع في نفس ربيعة بن نصر ما قالا، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاد، فأسكنهم الحيرة. فمن بقية ولد ربيعة بن نصر النعمان بن المنذر، فهو في نسب اليمن وعلمهم: النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدى بن ربيعة بن نصر [ ذلك الملك ]. قال ابن هشام: النعمان ابن المنذر بن المنذر، فيما أخبرني خلف الاحمر. استيلاء أبى كرب تبان أسعد على ملك اليمن وغزوه إلى يثرب قال ابن إسحاق: فلما هلك ربيعة بن نصر رجع ملك اليمن كله إلى حسان
[ 11 ]
ابن تبان أسعد أبى كرب - وتبان أسعد هو تبع الآخر - ابن كلى كرب بن زيد، وزيد هو تبع الاول، بن عمرو ذى الاذعار بن أبرهة ذى المنار بن الريش - قال ابن هشام: ويقال الرائش - قال ابن إسحاق: ابن عدى بن صيفي بن سبأ الاصغر بن كعب، كهف الظلم، بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن العرنحج، والعرنجج: حمير بن سبأ الاكبر بن يعرب بن يشجب بن قحطان. قال ابن هشام: يشجب ابن يعرب بن قحطان. قال ابن إسحاق: وتبان أسعد أبو كرب الذى قدم المدينة، وساق الحبرين من يهود [ المدينة ] إلى اليمن، وعمر البيت الحرام وكساه، وكان ملكه قبل ملك ربيعة بن نصر. قال ابن هشام: وهو الذى يقال له: ليت حظى من أبى كرب * أن يسد خيره خبله قال ابن إسحاق: وكان قد جعل طريقة - حين أقبل من المشرق - على المدينة، وكان قد مر بها في بدأته فلم يهج أهلها، وخلف بين أظهرهم ابنا له، فقتل غيلة، فقدمها وهو مجمع لا خرابها، واستئصال أهلها، وقطع نخلها، فجمع له هذا الحى من الانصار، ورئيسهم عمرو بن طلة أخو بنى النجار، ثم أحد بنى عمرو بن مبذول، واسم مبذول: عامر بن مالك بن النجار، واسم النجار: تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر. قال ابن هشام: عمرو بن طلة: عمرو بن معاوية بن عمرو بن عامر بن مالك ابن النجار، وطلة أمه، وهى بنت عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج.
[ 12 ]
قال ابن إسحاق: وقد كان رجل من بنى عدى بن النجار، يقال له أحمر، عدا على رجل من أصحاب تبع حين نزل بهم فقتله، وذلك أنه وجده في عذق له يجده، فضربه بمنجله فقتله، وقال: إنما التمر لمن أبره، فزاد ذلك تبعا حنقا عليهم، فاقتتلوا، فتزعم الانصار أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار، ويقرونه بالليل، فيعجبه ذلك منهم، ويقول: والله إن قومنا لكرام. فبينا تبع على ذلك من قتالهم إذا جاءه حبران من أحبار اليهود، من بنى قريظة - وقريظة والنضير والنجام وعمرو، وهو هدل، بنو الخزرج بن الصريح ابن التوءمان بن السبط بن اليسع بن سعد بن لاوي بن خير بن النجام بن (تمحوم) بن عازر بن عزرى بن هارون بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى ابن يعقوب، وهو إسرائيل، بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن، صلى الله عليهم - عالمان راسخان في العلم، حين سمعا بما يريد من إهلاك المدينة وأهلها، فقالا له: أيها الملك، لا تفعل، فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة، فقال لهما: ولم ذلك ؟ فقالا: هي مهاجر نبى يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان، تكون داره وقراره، فتناهى عن ذلك، ورأى أن لهما علما، وأعجبه ما سمع منهما، فانصرف عن المدينة، واتبعهما على دينهما، فقال خالد بن عبد العزى بن غزية بن عمرو [ بن عبد ] ابن عوف بن غنم بن مالك بن النجار يفخر بعمرو بن طلة: أصحا أم قد نهى ذكره * أم قضى من لذة وطره أم تذكرت الشباب، وما * ذكرك الشباب أو عصره ؟ إنها حرب رباعية * مثلها أتى الفتى عبره فاسألا عمران أو أسدا * إذا أتت عدوا مع الزهره فيلق فيها أبو كرب * سبغ أبدانها ذفره
[ 13 ]
ثم قالوا: من نؤم بها * أبنى عوف أم النجره ؟ بل بنى النجار، إن لنا * فيهم قتلى وإن تره فتلقتهم (مسايفة) * مدها كالغبية النثره فيهم عمرو بن طلة ملى الاله قومه عمره سيد سامي الملوك، ومن * رام عمرا لا يكن قدره وهذا الحى من الانصار يزعمون أنه إنما كان حنق تبع على هذا الحى من يهود الذين كانوا بين أظهرهم، وإنما أراد هلاكهم فمنعوهم منه حتى انصرف عنهم، ولذلك قال في شعره: حنقا على سبطين حلا يثربا * أولى لهم بعقاب يوم مفسد قال ابن هشام: الشعر الذى فيه هذا البيت مصنوع، فذلك [ الذى ] منعنا من إثباته. قال ابن إسحاق: وكان تبع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها، فتوجه إلى مكة، وهى طريقة إلى اليمن، حتى إذا كان بين عسفان وأمج أتاه نفر من هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد، فقالوا له: أيها الملك، ألا ندلك على بيت مال داثر أغفلته الملوك قبلك، فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة ؟ قال: بلى، قالوا: بيت بمكة يعبده أهله، ويصلون عنده. وإنما أراد الهذليون هلاكه بذلك، لما عرفوا من هلاك من أراده من الملوك وبغى عنده. فلما أجمع لما قالوا أرسل إلى الحبرين، فسألهما عن ذلك، فقالا له: ما أراد القوم إلا هلاكك وهلاك جندك، ما نعلم بيتا لله اتخذه في الارض لنفسه غيره، ولئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكن وليهلكن من معك جميعا، قال: فماذا تأمر اننى أن أصنع إذا [ أنا ] قدمت عليه ؟ قالا: تصنع عنده ما يصنع أهله: تطوف به، وتعظمه، وتكرمه، وتحلق رأسك عنده، وتذل له حتى تخرج من عنده، قال: فما يمنعكما أنتما من ذلك ؟ قال: أما والله إنه لبيت أبينا
[ 14 ]
إبراهيم، وإنه لكما أخبرناك، ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالاوثان التى نصبوها حوله، وبالدماء التى يهريقون عنده، وهم نجس أهل شرك - أو كما قالا له - فعرف نصحهما وصدق حديثهما، فقرب النفر من هذيل، فقطع أيديهم وأرجلهم، ثم مضى حتى قدم مكة، فطاف بالبيت، ونحر عنده، وحلق رأسه، وأقام بمكة ستة أيام - فيما يذكرون - ينحر بها للناس، ويطعم أهلها، ويسقيهم العسل، وأرى في المنام أن يكسوا البيت، فكساه الخصف، ثم أرى أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساه المعافر، ثم أرى أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساه الملاء والوصائل، فكان تبع - فيما يزعمون - أول من كسا البيت، وأوصى به ولاته من جرهم، وأمرهم بتطهبره، وألا يقربون دما ولا ميتة ولا مئلاة، وهى المحائض، وجعل له بابا ومفتاحا. وقالت سبيعة بنت الاحب بن زبينة بن جذيمة بن عوف بن نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان، وكانت عند عبد مناف بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، لابن لها منه يقال له خالد، تعظم عليه حرمة مكة، وتنهاه عن البغى فيها، وتذكر تبعا وتذلله لها، وما صنع بها: أبنى لا تظلم بمكة لا الصغير ولا الكبير واحفظ محارمها بنى ولا يغرنك الغرور أبنى من يظلم بمكة يلق أطراف الشرور أبنى يضرب وجهه * ويلح بخديه السعير أبنى قد جربتها * فوجدت ظالمها يبور الله آمنها، وما * بنيت بعرصتها قصور
[ 15 ]
والله آمن طيرها * والعصم تأمن في ثبير ولقد غزاها تبع * فكسا بنيتها الحبير وأذل ربى ملكه * فيها فأوفى بالنذور يمشى إليها حافيا * بفنائها ألفا بعير ويظل يطعم أهلها * لحم المهارى والجزور يسقيهم العسل المصفى والرحيض من الشعير والفيل أهلك جيشه * يرمون فيها بالصخور والملك في أقصى البلا * د وفى الاعاجم والخزير فاسمع إذا حدثت وافهم كيف عاقبة الامور قال ابن هشام: وهذا الشعر مقيد، والمقيد: الذى لا يرفع ولا ينصب ولا يخفض. ثم خرج [ منها ] متوجها إلى اليمن بمن معه من جنوده وبالحبرين، حتى إذا دخل اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخول فيه، فأبوا عليه، حتى يحاكموه إلى النار التى كانت باليمن. قال ابن إسحاق: حدثنى أبو مالك بن ثعلبة بن أبى مالك القرظى، قال: سمعت إبراهيم بن محمد بن طلحة بن **** الله يحدث: أن تبعا لما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك، وقالوا: لا تدخلها علينا، وقد فارقت ديننا، فدعاهم إلى دينه، وقال: إنه خير من دينكم، فقالوا: فحاكمنا إلى النار، قال: نعم، قال: وكانت باليمن - فيما يزعم أهل اليمن - نار تحكم بينهم فيما يختلفون فيه، تأكل الظالم ولا تضر المظلوم، فخرج قومه بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما ستقلديها، حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذى تخرج منه، فخرجت النار إليهم، فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها، فذمرهم من حضرهم من الناس، وأمروهم بالصبر لها، فصبروا [ لها ] حتى
[ 16 ]
غشيتهم فأكلت الاوثان وما قربوا معها، ومن حمل ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما تعرق جباههما لم تضرهما، فأصفقت عند ذلك حمير على دينه، فمن هنالك وعن ذلك كان أصل اليهودية باليمن. قال ابن إسحاق: وقد حدثنى محدث أن الحبرين، ومن خرج من حمير إنما اتبعوا النار ليردوها، وقالوا: من ردها فهو أولى بالحق، فدنا منها رجال من حمير بأوثانهم ليردوها، فدنت منهم لتأكلهم، فحادوا عنها ولم يستطيعوا ردها، ودنا منها الحبران بعد ذلك، وجعلا يتلوان التوراة وتنكص [ عنهما ]، حتى رداها إلى مخرجها الذى خرجت منه، فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما، والله أعلم أي ذلك كان. قال ابن إسحاق: وكان رئام بيتا لهم يعظمونه، وينحرون عنده، ويكلمون [ منه ] إذا كانوا على شركهم ! فقال الحبران لتبع: إنما هو الشيطان يفتنهم بذلك، فحل بيننا وبينه، قال: فشأنكما به، فاستخرجا منه - فيما يزعم أهل اليمن - كلبا أسود فذبحاه، ثم هدما ذلك البيت، فبقاياه اليوم - كما ذكر لى - بها آثار الدماء التى كانت تهراق عليه ملك ابنه حسان بن تبان، وقتل عمرو أخيه [ له ] فلما ملك ابنه حسان بن تبان أسعد أبى كرب سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب وأرض الاعاجم، حتى إذا كانوا ببعض أرض العراق قال ابن هشام: بالبحرين، فيما ذكر لى بعض أهل العلم - كرهت حمير وقبائل اليمن المسير معه، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهليهم، فكلموا أخا له يقال له عمرو، وكان معه في جيشه، فقالوا له: اقتل أخاك حسان ونملكك علينا، وترجع بنا إلى بلادنا، فأجابهم، فاجتمعوا على ذلك، إلا ذارعين الحميرى، فإنه نهاه عن ذلك، فلم يقبل منه، فقال ذو رعين:
[ 17 ]
ألا من يشترى سهرا بنوم * سعيد من يبيت قرير عين فإما حمير غدرت وخانت * فمعذرة الاله لذى رعين ثم كتبهما في رقعة، وختم عليها، ثم أتى بها عمرا، فقال له: ضع لى هذا الكتاب عندك، ففعل، ثم قتل عمرو أخاه حسان، ورجع بمن معه إلى اليمن، فقال رجال من حمير: لاه عينا الذى رأى مثل حسا * ن قتيلا في سالف الاحقاب قتلته مقاول خشية الحبس غداة قالوا: لباب لباب ميتكم خيرنا وحيكم * رب علينا وكلكم أربابي قال ابن إسحاق: وقوله " لباب لباب ": لا بأس لا بأس، بلغة حمير. قال ابن هشام: ويروى: لباب لباب. قال ابن إسحاق: فلما نزل عمرو بن تبان اليمن منع منه النوم، وسلط عليه السهر، فلما جهده ذلك سأل الاطباء والحزاة من الكهان والعرافين عما به، فقال له قائل منهم: إن والله ما قتل رجل قط أخاه، أو ذا رحمه بغيا على مثل ما قتلت أخاك عليه، إلا ذهب نومه، وسلط عليه السهر، فلما قيل له ذلك جعل يقتل كل من أمره بقتل أخيه حسان من أشراف اليمن، حتى خلص إلى ذى رعين، فقال له ذورعين: إن لى عندك براءة، فقال: وما هي ؟ قال: الكتاب الذى دفعته إليك، فأخرجه فإذا فيه [ مكتوب ] البيتان، فتركه، ورأى أنه قد نصحه. وهلك عمرو، فمرج أمر حمير عند ذلك وتفرقوا. وثوب لخنيعة ذى شناتر على ملك اليمن فوثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت المملكة، يقال له لخنيعة ينوف ذو شناتر، فقتل خيارهم، وعبث ببيوت أهل المملكة منهم، فقال قائل من حمير [ للخنيعة ]:
|